يتألف صنع الأحذية الكورية التقليدية من عشرات المراحل الدقيقة التي تتطلب مهارات وتقنيات عالية المستوى. وتنقسم الأحذية الكورية التقليدية إلى أنواع كثيرة وفقا للمستوى الاجتماعي لمرتديها وجنسه وعمره، حيث يُطلق على كل حذاء منها اسم معين. ومن المثير للاهتمام أن صنّاعها يصنعونها لتتناسب مع شكل قدم مرتديها. يتبع الحرفي "هوان دوك-سونغ" خطى والده فيواصل الحفاظ على تراث عائلته المستمر منذ ستة أجيال.
يتبع الإسكاف "هونغ دوك-سونغ" الذي وُلد في عائلة تصنع الأحذية الكورية التقليدية، خطوات والده ويواصل الحفاظ على تراث عائلته المستمر منذ ستة أجيال.
تتميزالأحذية الكورية التقليدية ومنحنياتها الأنيقة، بالجمال الذي يخلقه الانسجام بين الخطوط المستقيمة والخطوط المنحنية مثلها في ذلك مثل الحواف المنحنية لسقوف المباني الكورية التقليدية المسماة بـ"الهانوك". والغريب في أمر صناعة الأحذية الكورية التقليدية، أن ليس ثمة فرق بين فَرْدَة القدم اليمنى وفَرْدَة القدم اليسرى، فهما، في البداية، سيّان. لكن الحذاء يصبح متناسبا مع قدم مُرْتَدِيه تدريجيا مع مرور الوقت وتكرار استخدامه، فيشعر صاحبه بالراحة الكاملة، ويتغير شكل الحذاء بشكل طبيعي، عندئذ يمكن التمييز بين الفردة اليمنى من الحذاء والفردة اليسرى.
تُسمى الأحذية الكورية التقليدية بـ"هواهي"، وهو اسم مركب من كلمة "هوا" التي تعني الأحذية التي تغطي الكاحل وكلمة "هي" التي تشير إلى الأحذية التي لا تغطي الكاحل. وكذلك، يُطلق اسم "هواهي جانغ" على الإسْكَاف أو صانع الأحذية أو "غاتباتشي" أي الشخص الذي يدبغ الجلود ويتعامل معها. وغالبا ما يَرِد لفظ "غاتباتشي" في الأفلام أو المسلسلات الدرامية الكورية التي تدور أحداثها في عصر مملكة جوسون (١٣٩٢-١٩١٠م). ويشير القانون الأساسي لمملكة جوسون الذي يُسمى بـ"غيونغ غوك دي جون" باللغة الكورية، إلى أن الحكومة المركزية وحدها وظّفت العشرات من صنّاع الأحذية لتوفير الأحذية لأفراد العائلة الملكية. ويدل ذلك على وجود الطلب القوي على الأحذية في ذلك الوقت وتقسيم العمل بين الموظفين.
ويشير كتاب "سجلات ميآم" لمؤلفه "يو هي-تشون" (١٥١٣-١٥٧٧م) الذي كان من المسؤولين الحكوميين المدنيين في منتصف عصر مملكة جوسون، إلى أن الكوريين القدماء كانوا يرتدون أحذية مختلفة في المادة والشكل واللون، ليس وفقا لطبيعة المناسبات فحسب، بل وفقا للمستوى الاجتماعي لهم أيضا. وكذلك، كانوا يحددون ألوان الأحذية وطريقة ترتيبها مع الأخذ بعين الاعتبار عمر صاحبها. أما المواد والخامات التي كانت تُصنع منها الأحذية الكورية التقليدية، فهي كثيرة ومتنوعة، منها الجلد والحرير والقماش من مختلف النباتات والورق والخشب والقش. وما يزال الكوريون يلبسون الأحذية الكورية التقليدية في مناسباتهم الخاصة، مثل حفلات الزفاف وطقوس تكريم الأجداد، لإضفاء الأجواء الاحتفالية على هذه المناسبات.
قدر وليس اختيارا
قال الإسكاف "هوانغ" في مقابلة صحفية، "عندما كنت صغيرا، كانت عائلتي تعاني من مشاكل مالية لدرجة أن والدي كان يعمل ساعيا بدوام جزئي، لأنه كان من الصعب عليه أن يجني ما يكفي من المال من صنع الأحذية التقليدية بسبب قلة الطلب عليها. كنت أريد تجنب هذه المصاعب الاقتصادية والتحقت بشركة وعملت فيها لفترة قصيرة بعد التخرج. لكنني وجدت أن العمل المكتبي ليس مناسبا لي. وفي تلك الفترة، كان والدي قد نجح في إعادة صنع الحذاء التقليدي بعد بذل الكثير من الوقت والجهد في سبيل ذلك، فعملت في صناعة الأحذية، حيث أدركت أهمية الجهود المبذولة لإنقاذ الأشياء التقليدية من الانقراض. ومنذ ذلك الحين، وأنا أرى أن قدري هو الحفاظ على تراث عائلتي الحرفي".
ربما ساق القدر "هوانغ" ليكون حرفيا محترفا صنع الأحذية التقليدية منذ ولادته. فقد وُلد لعائلة تعمل في صناعة الأحذية الكورية التقليدية منذ زمن بعيد وتسكن في حي إنسا-دونغ الواقع في وسط العاصمة الكورية سيول، حيث كان الحرفيون الذين يعملون في الديوان الملكي يسكنون في هذا الحي خلال عصر مملكة جوسون. وقد أدرجت الحكومة الكورية فن صناعة نوعي "هوا" و"هي" من الأحذية التقليدية ضمن قائمة التراث الثقافي الوطني غير المادي بشكل منفصل، ثم عينت جد والده "هوانغ هان-غاب" كأول حرفي مدرج في فئة "هوا" من القائمة. وفي عام ٢٠٠٤، أصبح والده "هوانغ هي-بونغ" حرفيا مدرجا في قائمة "هواهي" بعد دمج فئتَيْ "هوا" و"هي" في فئة واحدة. وإذا نظرنا إلى تاريخ عائلته، نجد أن والد جد جده "هوانغ جونغ-سو" وضع أساسا لتراث عائلته الحرفي، وكان يزوّد الديوان الملكي خلال عهد الملك تشولجونغ (فترة حكمه: ١٨٤٩-١٨٦٣م) بالأحذية الجلدية. ويسعى الحرفي "هوانغ" إلى الحفاظ على هذا التراث العائلي الذي تعاقبت عليه ستة أجيال، منذ إدراجه كمتدرب رسمي لفن صناعة الأحذية التقليدية عام ٢٠١٦.
يقول "هوانغ": "يُقال إن عائلتي تعمل في صناعة الأحذية التقليدية منذ والد جد جدي الذي كان يصنع الأحذية للعائلة الملكية. من المعروف أن والد جدي كان يصنع أحذية الإمبراطور غوجونغ وغيره من أفراد آخر عائلة ملكية لمملكة جوسون، إلا أننا لا نجد الآن أثرا لأعماله إلا في بعض السجلات. تُوفي والد جدي عام ١٩٨٢ عندما كان والدي في الثلاثين من عمره وكنت أنا في الثالثة من عمري. آنذاك كادت عائلتي تفشل في الحفاظ على التراث العائلي الحرفي، إذ تُوفي جدّي قبل عامين. لحسن الحظ، نجح والدي في إعادة صنع الحذاء التقليدي المعروف باسم "سوك" والذي كان يُستخدم في المراسم الملكية، واستطاعت عائلتي الاستمرار بأداء مهمتها الموروثة".
أثناء المقابلة الصحفية تناول الحرفي "هوانغ" صندوقا من الرف العلوي، وأخرج منه حذاء "سوك"، الذي يُقال إنه كان يُصنع للملك وعقيلته في الماضي. وهناك نوعان من حذاء "سوك" وهما "جوك سوك" و"تشونغ سوك". في عصر مملكة جوسون، كان الملك وولي عهده يرتديان أحذية "جوك سوك" باللون الأحمر مع الزي الرسمي، بينما كانت عقيلتاهما ترتديان أحذية "تشونغ سوك" باللون الأزرق. كان هذا النوع من الأحذية الكورية عرضة لخطر الاندثار، فلا يكاد يُعثر له على أثر إلا في بعض السجلات التاريخية، إلا أن والد الحرفي "هوانغ" نجح في إعادة صنعه بناء على الاستشارات والأبحاث العلمية التي قدمها الخبراء والمختصون.
يقطع "هوانغ" قطعة من القماش القطني لصنع "بيكبي". وهذه هي الخطوة الأولى من خطوات صنع الأحذية الكورية التقليدية التي تتكون من أكثر من ٧٠ خطوة تفصيلية تتطلب مهارة كبيرة.
مناسب لشكل القدم
يستغرق صنع حذاء "هي" الذي يُعرف بـ"حذاء الزهر" أيضا لأنه مطرّز بالأزهار، ما بين أربعة أيام إلى عشرة أيام، لأنه يتألف من أكثر من ٧٠ مرحلة ويتطلب مهارة دقيقة من الحرفيين البارعين.
الخطوة الأولى في صنع أي نوع من الأحذية الكورية التقليدية هي صنع "بيكبي" باستخدام القماش المستخرج من النباتات. يُصنع "بيكبي" من طبقات متعددة من القماش الخفيف عن طريق لصق بعضها فوق بعض باستخدام اللاصق المصنوع من الأرز وتجفيفها لعدة أيام في مكان جيد التهوية. والخطوة الثانية هي صنع "سينول" الذي يكون أساسا لجسم الحذاء، عن طريق لصق قطعة من الحرير على الجانب الخارجي من "بيكبي" باستخدام حبات من الأرز المطبوخ. وأثناء لصق الحرير على "بيكبي"، يُستخدم منديل مبلل بالماء لمنع حبات الأرز من التصلب. وتتطلب هاتان الخطوتان مهارة كبيرة وصبرا في الانتظار حتى تصل المواد إلى الحالة المثلى للتعامل معها.أما الخطوة التالية فهي ربط قطعتين اثنتين من "سينول" باستخدام شعر الخنزير وخيط قطني مَطْلي بالشمع. في هذه المرحلة، يجب خياطة الكعب أولا ثم خياطة الطرف الأمامي. وبعد ذلك، يتم صنع نعل الحذاء باستخدام جلد البقر المدبوغ ثم ربطه بــ"سينول" عن طريق الخياطة. وفي النهاية، تُوضع قطعة خشبية في الحذاء على شكل القدم لتثبيت شكله.
أوضح الحرفي "هوانغ"، "أعتمد على التقاليد عند صنع الحذاء. فعلى سبيل المثال، أستخدم شعر خنزير بري لكيلا يتلف الحرير بسهولة. شعر الخنزير البري في سن الشيخوخة قوي جدا لكنه مرن أيضا. لذلك، هو مناسب جدا لخياطة الجلد والحرير. عندما ألصق الحرير على "بيكبي"، أستخدم حبات الأرز المطبوخ بعد هرسها باليد. وتصبح حبات الأرز المجففة قاسية جدا كالحجر، مما يساهم في الحفاظ على شكل الحذاء".
سألتُ "هوانغ" عن العنصر الأكثر جاذبية من بين عناصر الأحذية التقليدية، فأجاب أنه يحبّ مقدمة الحذاء التي تتسم بانحنائها الرشيق. وإذا كانت مقدمة الحذاء منحنية، لا ينزلق الحذاء من القدم بسهولة أثناء المشي.
أضاف "يُقال إن ليس هناك فرق بين فردة الحذاء اليمنى وفردة الحذاء اليسرى بالنسبة للأحذية الكورية التقليدية، إلا أن شكلهما يتغير بشكل طبيعي بعد فترة من الاستخدام حتى يمكن التمييز بينهما بسهولة. بعبارة أخرى فإن الأحذية الكورية التقليدية تتسم بأنها تتغير تدريجيا حتى تكون مناسبة لقدم مرتديها خلافا للأحذية الأخرى التي يُضطر مرتديها إلى التعود عليها".
زوج من الأحذية النسائية، موجود على أرضية خشبية تقليدية، مطرز بعشرة أشكال تمثل رموزا لطول العمر. تُصنف الأحذية الكورية التقليدية إلى أنواع مختلفة حسب الشكل والمادة والاستخدام. ومنها "سوهي"، وهي أحذية نسائية حريرية مطرزة تُسمى عادة بـ"أحذية الزهور" وكانت نساء الطبقة النبيلة يرتدينها خلال عصر مملكة جوسون.
الحفاظ على التقاليد
في الماضي، كان الإسكاف "هوانغ" مهتما بتعديل الأحذية التقليدية لزيادة الطلب عليها. ومع ذلك، واجه مشكلة كبيرة وهي سوء فهم معظم الناس للأحذية التقليدية الكورية، حيث تعمق سوء الفهم هذا الأحذية المصنوعة في المصانع الكبيرة.
ويقول، "هناك محاولات كثيرة لتطوير الملابس التقليدية الكورية لتتوافق مع أنماط الحياة الحديثة وأذواق الناس واحتياجاتهم المختلفة. لقد شجعتني هذه المحاولات على إيلاء الاهتمام بتعديل الأحذية التقليدية. لكني أود أن أؤكد ضرورة الحفاظ على التقاليد. وأرغب في نقل التقاليد إلى الجيل القادم مثلما فعل والدي عندما نجح في إعادة صنع الحذاء القديم".
إن المعرض الذي أقامته مؤسسة كوريا للحرف والتصميم في حي إنسا-دونغ في يوليو عام ٢٠٢٢ وعُرضت فيه كثير من أعمال الحرفيين البارزين الذين أُدرجت أسماؤهم ضمن قائمة التراث الثقافي الوطني غير المادي، أضاف رؤية جديدة لمستقبل الأحذية التقليدية. حيث أقامت المؤسسة هذا المعرض بعد تأخير دام ثلاث سنوات بسبب جائحة الكوفيد-١٩، وقدمت لزوار المعرض فرصة فريدة لتجربة الحرف التقليدية. وحظي هذا البرنامج التجريبي بإقبال حار لدرجة أنه استمر حتى بعد انتهاء الموعد المحدد للمعرض.
وعبّر "هوانغ" عن سعادته البالغة التي شعر بها عندما لاحظ أن معظم المشاركين في البرنامج من الشباب، وأضاف: "فاجأهم جمال الأحذية التقليدية وجعلهم ينغمسون في تجربة صنعها بأنفسهم. وبعد مشاركتي في هذا المعرض، أدركت أن زيادة وعي الجمهور بالتقاليد من خلال إقامة المحاضرات والعروض التوضيحية مهمة جدا". ويخطط "هوانغ" حاليا لتنظيم دورات منتظمة لتعليم كيفية صنع الأحذية الكورية التقليدية.
وأضاف: "أبحث عن طريقة لتبسيط مراحل صنع المواد المستخدمة مع الحفاظ على أساس هذه الصناعة. هذا أمر صعب جدا لأنه ليس لدينا، أنا وأبي، متدربون حاليا. لكن لحسن الحظ، تساعدني زوجتي كثيرا مثلما دعمت والدتي والدي طوال حياتها. ويمكن أن أعتمد على ابنيّ الاثنين رغم أنهما ما يزالان صغيرين".
لا بد أن الحرفيين الذين يحافظون على التقاليد المهددة بالانقراض يشعرون بالوحدة. أعتقد أن "هوانغ" ليس استثناء في ذلك. لكنني استطعت أن أشعر بأنه يثق بنفسه ثقة تامة.