القصور الملكية الكورية ليست هي هياكل ومباني تاريخية فحسب، وإنّما هي ميادين أيضا يتواصل فيها المعاصرون مع أسلافهم، حيث اكتسب برامج متنوعة لتجربة الثقافة شعبية كبيرة في الآونة الأخيرة وبخاصة بين الشباب. وهذا لأنهم يكتشفون عناصر جذابة فريدة في الثقافة التقليدية لم يكونوا يلمسونها أو يعرفونها في المحتويات الثقافية الشعبية المعاصرة.
المشاركون في "جولة في قصر تشانغدوك تحت ضوء القمر" ينظرون إلى الجزء الداخلي من دايجوجيون، وهو مقر إقامة الملكة. بدأت إدارة التراث الثقافي الكوري ومؤسسة التراث الثقافي الكوري هذا البرنامج عام ٢٠١٠، ويحظى بشعبية كبيرة لأنه يوفّر للزوار الفرصة لاستكشاف الأماكن غير المعروفة للجمهور.
© جونغانغ إلبو
بعد أن يغادر الزوار الصاخبون المكان تُغلق البوابات ويلفّ الظلام القصر ويتوقف هناك الزمن. ومع ذلك يتم فتح بعض القصور في ليالٍ محددة حيث تتجلّى مناظر خلابة لا يمكن رؤيتها أثناء النهار. وفي الآونة الأخيرة اكتسبت الجولات الليلية شعبية هائلة بين الشباب.
تقام أكثر الجولات الليلية شعبية في قصور تشانغدوك وغيونغبوك ودوكسو. ويمكن المشاركة في هذه البرامج بعد حجز التذكرة مسبقا عبر الموقع الإلكتروني للمؤسسة الكورية للتراث الثقافي، وبفضل الشعبية الكبيرة لهذه الجولات، فإن كل التذاكر تنفد بعد إتاحتها للجمهور في غضون دقيقة أو دقيقتين فقط. وتطلق على هذه المنافسة الشرسة اسم "غونغ-كيتينغ"، وهي مزيج من كلمتَيْ "غونغ" الكورية وتعني القصر و"تيكيتينغ Ticketing" الإنجليزية، وتعني حجز التذكرة. ويشكّل المراهقون والبالغون، الذين تقل أعمارهم عن ٣٠ عاما، ٨٠% من إجمالي الناجحين في غونغ-كيتينغ، وعلى وجه الخصوص تعدّ "جولة ليلية في سيوكجوجيون"، التي تقام في قصر دوكسو هي البرنامج الأكثر شعبية بين الشباب، بحيث تشكّل المراهقات والبالغات اللواتي تقل أعمارهن عن ٣٠ عاما نسبة كبيرة جدا من الشباب.
خبرات يستمتع بها القليل
يعود السبب في اهتمام الشباب بالجولات الليلية في القصور إلى محدودية الفرص المتاحة للمشاركة، وإلى البرامج المقدمة لهم التي يُمكن وصفها بأنها عالية الجودة ولا يمكن استبدالها بأخرى، وإلى الحماس الكبير لها في أنشطة وسائل التواصل الاجتماعي. ويمكن لما يصل إلى ٩ آلاف شخص المشاركة سنويا في "جولة في قصر تشانغدوك تحت ضوء القمر" التي تقام في الهواء الطلق. وتستوعب "جولة في قصر غيونغبوك تحت ضوء النجوم" ٢, ٥٦٠ شخصا، ويشارك في "جولة ليلية في سيوكجوجيون" ٢, ٣٠٠ شخص فقط.
ويرافق أحد المرشدين الزوار الذين نجحوا في شراء التذاكر، أثناء الجولة حيث يقوم بإرشاد كل المشاركين في البرنامج ويشرح لهم عن تاريخ القصر ومباني القصر الأخرى وغيرها من الأماكن الموجودة داخل القصر بشكل مفصل وممتع. وبالإضافة إلى ذلك فإنهم يتمتعون بمشاهدة العرض الموسيقي والتعرف على الثقافة الملكية وتناول الأطباق الملكية من الدرجة الأولى.
ونظرا لأن عددا قليلا من الأشخاص يتمكنون من الاستمتاع بأفضل الخدمات في المساحة التي لا يمكن دخولها إلا في وقت محدد، فإنهم يحرصون في مشاركة كل لحظة من الجولة على وسائل التواصل الاجتماعي. وتجتذب بعض اللقطات على الإنترنت آخرين للمشاركة في المنافسة على حجز التذاكر.
وتعدّ "جولة في قصر تشانغدوك تحت ضوء القمر" من أطول الجولات التي تكتسب شعبية كبيرة باطراد. وبدأ هذا البرنامج في عام ٢٠١٠ مدفوعا بالفضول البسيط إلى ما سيكون عليه التجول في الفناء الخلفي في قصر تشانغدوك في أجواء هادئة تحت ضوء البدر. وكان في البداية يُنظم لمدة حوالي ٥ أيام في الشهر عند اكتمال البدر، لكنه اكتسب شعبية هائلة منذ البداية، بحيث تم زيادة عدد المرات. والآن أصبحت هذه الجولة مثالية في القصر.
جولة في قصر تشانغدوك تحت ضوء القمر
تقام هذه الجولة لمدة حوالي ٧٠ يوما في الربيع والخريف، حيث تكون مناظر القصر هي الأجمل. ويختلف وقت بدء الجولة بحسب غروب الشمس، ويكون ذلك حوالي الساعة السابعة مساء. وبعد غروب الشمس تفتح البوابة الرئيسة لقصر تشانغدوك "دونهوامون" وتدخلها المجموعات الست، وتضم كل مجموعة ٢٥ شخصا، في أوقات مختلفة. وتسمح لـ١٥٠ شخصا كحد أقصى بدخول القصر في الليل من أجل ضمان الراحة خلال الجولة.
ويستغرق هذا البرنامج ١٠٠ دقيقة تقريبا، وتكون البداية بالجولة الليلية والنهاية بالعرض الموسيقي. وتجري الجولة الليلية برفقة مرشد لاستكشاف حوالي عشرة مبان داخل الفناء الخلفي وحوله الذي يعدّ أجمل مساحة في قصر تشانغدوك، حيث تتيح الجولة الفرصة للزوار لمشاهدة الأماكن التي يتعذر على الآخرين الوصول إليها في الليل. كما يمكنهم التقاط صور مع ممثّلين يرتدون زي ملك جوسون وملكتها ومشاهدة العرض الموسيقي الذي يتم فيه العزف على الآلات التقليدية مثل دايغم وهو مزمار مصنوع من الخيزران وغومونغو وآجينغ وهما آلتان وتريتان.
وبعد الوصول إلى يونكيونغدانغ الذي يقع في الفناء الخلفي لقصر تشانغدوك، يحتسي المشاركون في الجولة الشاي ويأكلون الحلويات التقليدية وهم جلوس أثناء مشاهدة العرض الموسيقي الملكي الذي يتضمن الرقص والعزف على الآلات الموسيقية والغناء. والسبب وراء أهمية هذا العرض أن يونكيونغدانغ هو المكان الفعلي الذي كانت تقام فيه الحفلات والعروض الفنية والموسيقية في عهد مملكة جوسون. وتنتهي "جولة في قصر تشانغدوك تحت ضوء القمر" بالعرض الموسيقي المتميز.
تنعّم وترف في الليل
انطلقت "جولة في قصر غيونغبوك تحت ضوء النجوم" لأول مرة عام ٢٠١٦. وتقام الآن لمدة ٤٠ يوما في الربيع والخريف بمشاركة ٣٢ شخصا في كل جزء من جزئي الجولة في اليوم. وأبرز ما تتميز به الجولة هو تناول وجبة طعام داخل القصر أثناء مشاهدة العرض الموسيقي. ويتم تقديم الوجبة في "ويسوجوبانغ" أي المطبخ الخارجي، حيث كان يتم فيه إعداد المآدب الملكية في عهد مملكة جوسون. ويأتي الطعام، الذي يتم تقديمه في صناديق غداء نحاسية من أربع طبقات، من مطعم "البيت الكوري"، وهو مطعم متخصص في الأطباق الملكية. وتُتاح في هذه الجولة لـ ٢, ٥٦٠ شخصا فقط في السنة فرصة نادرة للجلوس في أحد مباني القصر والاستمتاع بالعرض الموسيقي التقليدي أمام مائدة العشاء الملكية. وبعد الوجبة يقومون بجولة في الجزء الشمالي من قصر غيونغبوك لمدة ٦٠ دقيقة تقريبا، فيحظون بفرصة رائعة لاستكشاف الجزء الذي يستره النهار ولا يكشف عن نفسه إلا في الليل.
أما فكرة "جولة ليلية في سيوكجوجون بقصر دوكسو" فبدأت عام ٢٠٢١. ونظرا لبروز سيوكجوجون كمعلم ساخن بين الشباب فإن هذه الجولة أصبحت أكثر شعبية من الجولات الأخرى التي بدأت منذ فترة طويلة نسبيا. وكان قصر دوكسو الذي اكتمل بناؤه عام ١٩١٠ مقرا إمبراطوريا في فترة الإمبراطورية الكورية، من ١٨٩٧ إلى ١٩١٠، ويتميز هذا القصر بالمزج الفريد بين فن العمارة التقليدية الكورية وفن العمارة الغربية، ومن ضمن الأبنية التي يظهر فيها هذا المزج مبنى سيوكجوجون، وهو مبنى حجري يحمل سمات طراز العمارة الغربية. وتستمر إقامة الجولات الليلية في هذا المبنى الحجري مدة ٤٨ يوما في العام في فصليْ الربيع والخريف بمشاركة ١٦ شخصا في كل جزء من أجزاء الجولة الثلاثة في اليوم. ويمكن دخول مبنى سيكجوجون في الليل من خلال هذا البرنامج فقط، والذي يتكون من جولة إرشادية في المبنى، وشرب القهوة أثناء الاستمتاع بالموسيقى الكلاسيكية على شرفة الطابق الثاني، ومشاهدة المسرحية الموسيقية الشهيرة التي تدور أحداث قصتها حول الإمبراطورية الكورية. وعلى وجه الخصوص توفّر الشرفة إطلالة رائعة على مدينة سيول، مما يجعلها مكانا مثاليا لالتقاط صور تذكارية لا تنسى.
القصر.. سمات ثقافية مشتركة
برنامج "سيمكونغ شيمغونغ" هو برنامج تنظّمه مؤسسة التراث الثقافي الكوري لكي يجعل هيانغوونجيونغ، وهو جناح يقع وسط بركة في قصر غيونغبوك، مكانًا للاسترخاء والعلاج بالروائح العطرية والتأمل.
© مؤسسة التراث الثقافي الكوري
لئن كانت الجولات السالفة الذكر تتيح مشاهدة مناظر ليلية جميلة في القصور، فإن مراسم تبديل الحرس الملكي في قصر غيونغبوك توفر مشاهد رائعة في النهار. لقد بدأت هذه المراسم لعرض التراث التقليدي الكوري في كأس العالم ٢٠٠٢ الذي نظمته بشكل مشترك كوريا الجنوبية واليابان. وكان حراس البوابة في عهد مملكة جوسون مسؤولين عن حماية القصر وفتح بواباته وإغلاقها.
وقام خبراء في مختلف المجالات التاريخية، بما فيها الطقوس والحراسة والأزياء والزخارف الاحتفالية، بدراسة الوثائق والمواد التاريخية والتحقق من القطع الأثرية بشكل متكرر لتعزيز ضمان أكبر قدر من دقة المراسم. ونتيجة لذلك تم التوصل إلى إقامة مراسم تشمل ثقافة الحراسة الملكية وتقاليدها في أوائل عهد مملكة جوسون. وحتى الآن تتحسّن هذه المراسم من وقت لآخر عند الكشف عن نتائج بحثية جديدة وقطع أثرية متعلقة بها.
وبخلاف عطلة يوم الأحد الأسبوعية الرسمية للبلاد، فإن قصر غيونغبوك يغلق أبوابه ومبانيه في عطلته الأسبوعية أمام الجمهور يوم الثلاثاء، لذلك تقام هذه المراسم كل يوم ما عدا يوم الثلاثاء، حيث يمكن مشاهدة دورات تدريب الجنود مرتَيْن في اليوم، وتحديدا في الساعة التاسعة و٣٥ دقيقة صباحا وفي الساعة الواحدة و٣٥ دقيقة بعد الظهر، إلى جانب مراسم تبديل الحرس مرتَيْن في اليوم، وتحديدا في الساعة العاشرة صباحا وفي الساعة الثانية بعد الظهر. ويبلغ عدد الممثلين الذين يؤدون دور الجنود والحراس حوالي ١٠٠ شخص، بمن فيهم أعضاء الفرقة الموسيقية الذين يعزفون موسيقى "تشويتا" التي كان يتم عزفها عند سير الملك أو الجيش في المملكة. ونظرا لأن المراسم تقام في ساحة مفتوحة كل يوم، فلا داعي للحجز حيث يمكن التقاط صور مع الحراس الذين يقفون أمام البوابة بعد الانتهاء من المراسم.
مراسم تبديل الحرس الملكي في قصر غيونغبوك التي بدأت عام ٢٠٠٢ تعطي المشاهدين لمحة عن كيفية توفير الحماية الأمنية للملك والعائلة الملكية في قصور مملكة جوسون.
© مؤسسة التراث الثقافي الكوري
ومن بين الفعاليات الأخرى التي تقام في القصور العرضُ الموسيقي الملكي الذي تتناغم فيه الألحان التقليدية والحديثة، والعرض الذي يمزج بين الموسيقى الملكية ورقص الباليه، وعرض "يايون" وهي مأدبة ليلية في قصر تشانغكيونغ الذي يعيد إنتاج المآدب التي كان يقيمها الملك لكبار المسؤولين، ومهرجان الثقافة الملكية، وهو مهرجان ثقافي وفني شامل كان يقام في القصر. فالقصور لم تعد مجرد مواقع تاريخية جامدة، بل أصبحت ساحات واسعة تنبض فيها الحياة وتعيد إنتاج عروض ومهرجانات وطقوس تقليدية يمكن لكل الناس التمتع بها.