تُعد منطقة "سو تشون" إحدى أقدم المناطق في مدينة سيول. وهي عبارة عن متاهة معقدة من البيوت القديمة والآثار الثقافية التي تشكل واحة حضرية جذابة تعطي فرصة للراحة والتأمل.
تؤدي الأزقة القديمة في منطقة "سو تشون" إلى قصر غيونغ بوك الذي كان يسكن فيه ملوك مملكة جوسون (١٣٩٢-١٩١٠م) والبيت الأزرق، وهو المقر الرسمي لرئيس جمهورية كوريا، اللذين يقعان على سفح جبل "بوك آك". كان موظفو الحكومة والعلماء وما زالوا يسكنون في منطقة "سو تشون" منذ قرون نظرا لقربها من قلب الحكومة.
في الحقيقة، فإن اسم المنطقة "سو تشون" يعني "قرية في الغرب" لأنها تقع غرب القصر الملكي. ومن الشمال يحدها جبل "إين وانغ" الذي كان يقوم بدور السور الدفاعي عندما كانت سيول مدينة مسورة. وفي ظل جائحة فيروس كورونا المستجد، يزور الكثير من الناس جبل "إين وانغ" للتمتع بمناظر المدينة التي يمكن رؤيتها من قمة الجبل.
تُعد منطقة "سو تشون" من المعالم الجذابة في مدينة سيول، إضافة إلى جارتها منطقة "بوك تشون" التي يعني اسمها "قرية في الشمال"، وتُعرف أيضا باسم "قرية البيوت الكورية التقليدية". وتكتظ هاتان المنطقتان بأزقة جذابة مزينة بالمباني الكورية التقليدية التي يصل عمرها إلى عدة قرون. واليوم، تحولت هذه المباني التقليدية إلى مقاهٍ أنيقة أو فنادق صغيرة. كما أن مكتبة "دي وو" التي تُعد أقدم مكتبة في سيول تقع في منطقة "سو تشون" على مسافة دقائق قليلة سيرا على الأقدام من محطة قصر غيونغ بوك. والأهم من كل ذلك، أننا نستطيع أن نتمتع بعبق الفن والثقافة الذي يفوح من أزقة هاتين المنطقتين.
تجعلني الأجواء الدافئة التي تملأ الأزقة الضيقة في منطقة "سو تشون" أتذكر أجواء الحي الذهبي في مدينة براغ عاصمة التشيك وأجواء حي مونمارتر في باريس. كما أن صالات العرض، التي تتجمع في منطقة "سو تشون" تعرض أعمال الفنانين الحديثة في القرن الحادي والعشرين، بين المباني الكورية التقليدية تذكرني بمشاهد اللوحات الكورية التقليدية القديمة. وهناك سوق "تونغ إين" حيث يتجمع جميع زوار المنطقة وتبيع المحلات مختلف مستلزمات الحياة والأطباق المحلية اللذيذة. ولا سيما أن هذه السوق مشهورة بـ"برنامج صندوق الغذاء" الذي يمكّن الزبائن من تجربة أطباق جانبية متنوعة بسعر معقول.
أفضل طريق للاطلاع على منطقة سو تشون هو رؤيتها من جبل إين وانغ الذي كان سورا طبيعيا لمدينة سيول القديمة. تشهد منطقة سو تشون التي تمتد من شرقي جبل إين وانغ إلى السور الغربي لقصر غيونغ بوك، أحداثا تاريخية مهمة منذ عصر مملكة جوسون وحتى الآن.
يقع وادي سوسونغ في حي أول إين. ويجذب هذا الوادي كثيرا من الأدباء والفنانين منذ زمن بعيد نظرا للأجواء المفعمة بالحيوية التي تشكلها ظلال الأشجار الجميلة وإيقاع خرير جداول الماء.
أنشأت مملكة جوسون أسوار هان يانغ بعد تأسيسها في القرن الرابع عشر لوضع الحدود بين العاصمة والمناطق الأخرى وحماية العاصمة من الغزو الخارجي. يتراوح متوسط ارتفاعها بين ٥ إلى ٨ أمتار ويبلغ طولها الإجمالي ١٨.٦ كيلومتر. ويقع السور الغربي بجانب جبل إين وانغ ويحيط بمنطقة سو تشون.
سكان المنطقة المشاهير
اُفتتح متحف باك نوسو في سبتمبر عام ٢٠١٣ ويعرض حوالي ألف عمل للفنان باك نوسو الذي عاش في هذه المنطقة نحو ٤٠ عاما
كان الشاعر يون دونغ-جو يعيش في بيت الكاتب الروائي كيم سونغ (١٩٠٩-١٩٨٨م) الذي كان الشاعر يحترمه احتراما كبيرا، عندما كان طالبا في كلية يونهي عام ١٩٤١. ترك في هذا البيت عديدا من الأشعار الجميلة، ومنها شعر «ليلة عدّ النجوم»، إلا أن هذا البيت لا أثر له الآن.
تصور الرسامة كيم مي-غيونغ مشاهد أزقة منطقة سو تشون من أماكن مرتفعة. كانت الرسامة كيم تعمل صحفية لمدة عشرين عاما إلا أنها تركت وظيفتها وانتقلت إلى مدينة نيويورك عام ٢٠٠٥ ورجعت إلى كوريا واستقرت في منطقة سو تشون عام ٢٠١٢. هي معروفة حاليا بلقبها “فنانة على السقف.
منطقة "سو تشون" هي موطن الكثير من الأمراء، ومنهم الأمير "تشونغ نيونغ" الابن الثالث للملك "تاي جونغ" الذي أصبح الملك "سيجونغ" (فترة الحكم : ١٣٩٧- ١٤٥٠ م)في وقت لاحق. وهو أشهر ملوك مملكة جوسون باختراعه الحروف الكورية المسماة بـ"هانغول" ودعم العديد من المشاريع العلمية.
كما أن الأمير "آن بيونغ" (١٤١٨-١٤٥٣م) الابن الثالث للملك "سيجونغ" كان يسكن في وادي "سوسونغ" الذي يقع في الجزء العلوي من منطقة "سو تشون" ويشتهر بصورته في لوحة "أرض أزهار الخوخ في الحلم" التي رسمها الفنان "آن غيون" عام ١٤٤٧. ومن المعروف أن هذه اللوحة المشهورة تصور العالم المثالي الذي رآه الأمير "آن بيونغ" في حلمه.
فضلا عن ذلك، كان الأمير "هيو ريونغ" (١٣٩٦-١٤٨٦م)، وهو ثاني أكبر شقيق للملك "سيجونغ"، يسكن في منطقة "سو تشون" أيضا. وكان الأمير مشهورا بكثرة المعارف والعلوم وشخصيته الفاضلة. وقد ابتعد الأمير عن السلك السياسي مباشرة بعد اعتلاء شقيقه الأصغر العرش وبذل حياته لتحقيق ازدهار البوذية.
وفي منطقة "سو تشون"، رسم الفنان العظيم "جونغ سون" (١٦٧٦-١٧٥٩م) لوحة "جبل إين وانغ بعد هطول الأمطار" (١٧٥١م) التي تمثل عصر "المناظر الحقيقية" الذي ازدهرت فيه فنون مملكة جوسون. وأُدرجت هذه اللوحة تحت الرقم ٢١٦ من قائمة التراث الوطني الكوري، وكانت في حوزة رئيس مجموعة سامسونغ السابق الراحل "لي غون-هي" حتى تبرعت عائلته بها للحكومة بعد وفاته العام الماضي.
في منتصف عصر مملكة جوسون، بدأ بعض أبناء الطبقة الوسطى يسكنون في منطقة "سو تشون". وكانت هذه الطبقة التي تقع بين طبقة النبلاء وطبقة الفلاحين تتكون من الموظفين الحكوميين ذوي الرتب المتدنية والفنيين مثل المترجمين والأطباء والخصيان الذين كانوا يخدمون الملوك. واستقروا في منطقة "سو تشون" التي تشمل حي "ووك إين" وحي "هيوجا" وحي "ساجيك". وتتسم البيوت التقليدية القديمة في منطقة "سو تشون" بحجمها الصغير وبساطتها خلافا للبيوت التقليدية الكبيرة في منطقة "بوك تشون" التي كان معظم سكانها من النبلاء أو العلماء. وللسبب ذاته، يمكننا أن نجد عددا لا حصر له من الأزقة الضيقة في منطقة "سو تشون".
أدى انهيار مملكة جوسون والاحتلال الياباني إلى انتقال الفنانين الشباب إلى منطقة "سو تشون"، ومنهم الشاعر "إي سانغ" (١٩١٠-١٩٣٧م) والشاعر "يون دونغ-جو" (١٩١٧-١٩٤٥م) والشاعر "نو تشون-ميونغ" (١٩١١-١٩٥٧م) والروائي "يوم سانغ-سوب" (١٨٩٧-١٩٦٣م). وفضلا عن هؤلاء، كان الرسام "غو بون-وونغ" (١٩٠٦-١٩٥٣م) والرسام "لي جونغ-سوب" (١٩١٦-١٩٥٦م) والرسامة "تشون كيونغ-جا" (١٩٢٤-٢٠١٥م) يسكنون فيها أيضا. ومن المفارقات أن بعض أشهر خائني الوطن الذين دعموا احتلال اليابان لكوريا بنوا بيوتا فاخرة على النمط الغربي في منطقة "سو تشون" للسكن فيها، ومنهم "لي وان-يونغ" (١٨٥٨-١٩٢٦م) و"يون دوك-يونغ" (١٨٧٣-١٩٤٠م).
تعيش الأعمال الفنية والثقافية حياة خالدة تتجاوز حدود زمن إبداعها وزمن مبدعيها. والفنانون بمثابة الصيصان الصغيرة التي تحاول كسر القشرة في الظلام لكسب حياة جديدة. وكان الفنانون في ذلك الوقت يخوضون في أنشطة إبداعية للهروب من الفقر واليأس مثل المخلوقات الضعيفة التي تدق القشرة الصلبة المحيطة بها للعيش. وأنا أبحث عن آثارهم في رحلتي هذه في منطقة "سو تشون".
يعود أصل سوق تونغ إين إلى سوق عامة أنشأتها حكومة الاحتلال الياباني لصالح اليابانيين الذين كانوا يعيشون بالقرب من حي هيوجا. تطورت السوق إلى ما هي عليه اليوم بعد أن ازداد عدد سكان منطقة سو تشون ازديادا سريعا بعد الحرب الكورية.
عبق الفنون
أولا، اتجهتُ نحو تل الشعراء لزيارة مكتبة "تشونغ وون" الأدبية ومتحف "يون دونغ-جو" للأدب. وفيه، استطعت أن أرى برج "نام سان" وبرج "لوتي" على ما وراء نهر هان فضلا عن مناظر وسط المدينة القديم. عندما رأيت متحف "يون دونغ-جو" للأدب، شعرت أن جدرانه الإسمنتية وبابه الحديدي يذكرانني بالسجن، خلافا لمكتبة "تشونغ وون" التي اُفتتحت في مبنى كوري تقليدي يقع على منحدر الجبل بعد ترميمه. رغم ذلك، احتل مبنى المتحف الذي يوجد بجانبه مقهى وحديقة صغيرة مرتبة عالية في قائمة أفضل المباني الكورية الحديثة لعام ٢٠١٣ التي حددتها صحيفة "دونغ آه" اليومية وجريدة "سبيس" للهندسة المعمارية.
في غرفة الفيديو، استطعت أن أشاهد فيلما يعطي لمحة عامة عن حياة الشاعر "يون دونغ-جو" الذي كتب أشعاره في بيته المستأجر في منطقة "سو تشون" واُعتقل في سجن في مدينة فوكوكا اليابانية بعد مشاركته في المقاومة مع الطلاب الكوريين ضد الاحتلال الياباني وتُوفي في السجن في فبراير عام ١٩٤٥ قبل أشهر من استقلال كوريا. كتب الشاعر في دفتره "أشعر بالعار لأنني مختبئ في غرفة صغيرة دون فعل أي شيء إلا كتابة الأشعار. أحس بعار أكبر لأنني أستطيع أن أكتب هذه الأشعار بكل سهولة".
بعد ذلك، اتجهت نحو بيت الشاعر العبقري "إي سانغ" الذي مات في سن الشباب. يُعد بيته نقطة انطلاق مشهورة للسياح الباحثين عن الآثار الفنية والثقافية في منطقة "سو تشون". لكن البيت الحقيقي الذي عاش فيه الشاعر حوالي عشرين عاما منذ السنة الثالثة من عمره، تحطم. والمبنى الحالي هو مبنى جديد بُني بعد وفاته. ويمكن أن نجد فيه مختلف المعروضات، ومنها نسخ خطية لأعمال الشاعر "إي سانغ". بعد مغادرة بيت "إي سانغ"، ذهبت باتجاه وادي "سوسونغ"، ثم وصلت إلى متحف "باك نوسو" الذي يعرض أعمال الرسام "باك نوسو" (١٩٢٧-٢٠١٣م)، وهو مشهور بلوحاته التقليدية التي صور فيها مناظر الطبيعة الأنيقة. وبالقرب من المتحف، يوجد البيت الذي كان الشاعر "يون دونغ-جو" يعيش فيه عندما كان طالبا جامعيا.
أخيرا، وصلت إلى وادي "سوسونغ" الذي يُعد نهاية منطقة "سو تشون". وهناك، صادفت امرأة تجلس وحدها وترسم شيئا على اللوحة وهي ترتدي كمامة. إنها الرسامة "كيم مي-غيونغ" التي تُعرف بلقبها "فنانة على السقف". كانت الرسامة "كيم" تعمل صحفية مدة عشرين عاما إلا أنها تركت وظيفتها عام ٢٠١٣ وبدأت برسم مناظر منطقة "سو تشون".
تلتقط الفنانة "كيم" مناظر منطقة "سو تشون" في لوحاتها وهي تقف على قمة جبل "إين وانغ" أو على سقف بيت كوري تقليدي أو بيت ياباني بُني في عصر الحكم الاستعماري الياباني أو بيوت أخرى في المنطقة، لتسجيل مشاهد تاريخ مدينة سيول. في البداية، اشتبه بأمرها بعض سكان المنطقة وأبلغوا الشرطة أن جاسوسة كورية شمالية تقوم برسم خريطة على السقف، ولكن الآن يمكن أن نجد لوحاتها بسهولة على جدران المحلات في منطقة "سو تشون".
دائما ما تعطينا الرحلة في الأزقة سعادة بالغة لأنها ترشدنا إلى طريق جديد كلما فقدنا طريقنا في هذه المتاهة المعقدة.
شارك ١٩ مصورا فوتوغرافيا في معرض الصور الفوتوغرافية الذي أُقيم في فندق بوآن خلال الفترة ما بين ٣٠ من أبريل و١٦ من مايو عام ٢٠٢١. وعُرضت فيه أعمالهم التي بلغ عددها حوالي ٨٠ صورة فوتوغرافية وصوروا فيها مشاهد الشوارع بعد تنفيذ إجراءات التباعد الاجتماعي نتيجة جائحة كورونا.
بُني فندق بوآن في الأربعينيات من القرن الماضي وكان الكثير من الفنانين والأدباء يقيمون فيه. كان هذا المبنى يُستخدم فندقا إلا أنه تحول إلى مركز ثقافي شامل تُقام فيه المعارض والعروض الفنية المختلفة.
مواقع للزيارة في منطقة سو تشون
1
2
3
4
© جيان
تجول في متاهة
قبل انتهاء رحلتي، زرت فندق "بوآن" في حي "تونغ إي" الذي كان يقدم مكان الإقامة للفنانين الكوريين، مثل الرسام "لي جونغ-سوب" والشاعر "سو جونغ-جو" (١٩١٥-٢٠٠٠م). لا يزال مبنى الفندق الذي بُني عام ١٩٤٢ يحافظ على شكله ويُستخدم حاليا كصالة عرض للأعمال الفنية. وجدير بالذكر أن فندق "بوآن" هو المكان الذي طبع فيه الشاعر "سو جونغ-جو" أول عدد من مجلة "قرية الشعراء" الأدبية. في داخل الفندق، استطعت أن أشم عبق التاريخ الذي يفوح من شتى أرجاء المبنى. لقد سحرتني السلالم التي تصدر صريرا وغرف العرض الضيقة التي تحمل آثار الماضي.يُشار إلى أن السيد "تشوي سونغ-وو" الذي يدير فندق "بوآن" حاليا، درس الإدارة الفنية في فرنسا وبعد عودته إلى كوريا حوّل فندق "بوآن" إلى مركز ثقافي شامل يمثل منطقة "سو تشون". بنى السيد "تشوي" مبنى آخر مكونا من أربعة طوابق بجانب فندق "بوآن" لاستضافة مزيد من المعارض الفنية والثقافية وتنفيذ المشاريع الثقافية المتنوعة سواء أكانت محلية أم دولية. كما أنه يخطط حاليا لعرض أعمال بعض الفنانين الأجانب في المعرض الخاص الذي يقيمه في فندق "بوآن" سنويا. وفي الطابقين الثالث والرابع من الفندق، توجد غرف الضيوف وأماكن العمل المخصصة للفنانين الذين يقيمون في هذا الفندق.كان مختلف الفئات من الناس يعيشون في منطقة "سو تشون" وما يزالون، إلا أنهم مرتبطون بعضهم ببعض من خلال الرابط القوي المسمى بالثقافة والفنون. وفي أزقتها الضيقة، يمكن أن نجد الماضي والحاضر والمستقبل للثقافة والفنون.دائما ما تعطينا الرحلة في الأزقة سعادة بالغة لأنها ترشدنا إلى طريق جديد كلما فقدنا طريقنا في هذه المتاهة المعقدة. وعندما نصل طريقا مسدودا، ننظر للخلف ونفكر في الآثار التي تركناها في حياتنا. وفي رحلتي هذه، كنت أنظر للخلف مرارا وتكرارا.
في الخمسينيات من القرن الماضي حيث اُفتتحت مكتبة دي وو، كانت المكتبة تكتظ بالطلاب من المدارس القريبة منها الذين كانوا يرتادونها لشراء الكتب أو بيعها وتم تدريجيا توسيع المكتبة التي اُفتتحت في مستودع خارج البيت ثم احتلت البيت كله. مع ذلك، أصبحت مساحتها صغيرة اليوم وبُني مقهى صغير وراءها.
حي تشيبو من منطقة سو تشون الذي يُعرف باسم “شارع المطاعم” يكتظ بالناس ليلا ونهارا من مختلف الأجيال. ويتجول زواره في المتاهة المليئة بالمطاعم الصغيرة.
لي سان-هاشاعر
آن هونغ-بوم مصور فوتوغرافي