معظم العملاء طيبون. ومع ذلك، هناك دائمًا عدد قليل ممن يتركون جروحًا غائرة في القلب ببضع الكلمات عبر الهاتف. واختبرتْ هذا الأمر بشكل شخصي «جانغ يون يونغ» التي تمضي حاليا عامها الثالث في مركز الاتصال لخدمة العملاء التابع لشركة كرسي التدليك.

تستيقظ «جانغ يون يونغ» في الساعة 7:40 صباحًا. تغادر المنزل في الساعة 8:20، وتصل إلى الشركة بعد 25 دقيقة. ويستغرق التحضير إلى العمل 15 دقيقة، فتُعدّ لنفسها فنجانا من القهوة. وفي الساعة التاسعة، يُعلن الهاتف بدء ساعات الدوام.
«مرحبًا، معكم عضو فريق رضا العملاء «جانغ يون يونغ». بماذا يمكنني مساعدتكم؟»
وتجيب «جانغ» ما معدله 60 استفسارًا يوميًا، وتجري 40 مكالمة هاتفية لإخبار العملاء عن معلومات خاصة بتقديم الهدايا أو لشرح ملاحظات عن سلامة المنتج. وتتعلق معظم الاستفسارات الواردة من العملاء بموعد تسليم المنتج. وعادة ما يستغرق تسليم كرسي التدليك أسبوعًا إلى 10 أيام. وتعد هذه الفترة طويلة جدًا بالنسبة لأولئك الذين اعتادوا على خدمة التوصيل السريع الذي يمكن إتمامه في يوم واحد. وهناك إجابة وحيدة فقط يمكن تقديمها لأولئك الذين يطلبون التوصيل السريع: «من المتوقع أن نقوم بالتسليم قريبا، وسيتصل بكم فريق التوصيل المحلي مباشرةً لموافاتكم بالموعد النهائي».
تصنّف «جانغ» العملاء إلى ثلاث مجموعات، والأغلبية التي تمثل نحو 80% من إجماليهم، تتفهم طبيعة عملية تسليم كرسي التدليك، بعد الاستماع إلى توضيحها المهذب، حيث تصنّف هؤلاء الأشخاص الذين لا يصعب عليها التواصل معهم، على أنهم «عملاء جيدون». وتصنّف حوالي 18% من المتصلين، على أنهم مجموعة «العملاء السيئين» الذين يتصلون للشكوى، وهم يرفضون الاستماع، ويقولون «ما الذي تقولينه؟ هل تتجاهلينني الآن؟ لماذا تختلقون أعذارا من هذا القبيل؟». أما «أسوأ العملاء»، فهم حوالي 2 % من المتصلين، وهم يرشقونها بالإهانات ويسلقونها بألفاظ التحرش الجنسي.
واحتمالات التواصل مع عميل سيئ في المكالمة الأولى، عالية جدًا في الساعة 9 صباحًا، لكونهم ينتظرون فقط الوقت الذي يبدأ فيه الدوام، من أجل إبداء غضبهم المتراكم منذ مساء اليوم السابق، إذ قد يكون المتصلون الأوائل يراقبون الساعة طوال عطلة نهاية الأسبوع للتنفيس عن غضبهم بمجرد بدء ساعات الدوام في يوم الاثنين. وبالنسبة إلى «جانغ»، فإن صباح يوم الاثنين بعيد جدًا عن مفهوم «البداية الممتعة لأسبوع جديد».
بيئة عمل سيئة

إنه وقت الغداء من 12:00 إلى 1:00 ظهرا، عندما ينتهي العمل الصباحي. وخلال استراحة الغداء، تتجاوز «جانغ» الكافتيريا. هي تأكل مأكولات خفيفة فقط وتختفي في مكان ما للراحة. إن غاية ما تشتهيه وتتمناه- أكثر من أي وجبة طعام- هو مكان هادئ يُطبق عليه الصمت، لتستمتع بوقت لا تكون فيه مضطرة إلى الاستماع لأحد أو التحدث مع أحد. ومثلما يحتاج الجسم إلى الأكل ليقوى على التعب الجسدي، تحِنّ الروح إلى الصمت والصفو للتخفّف من المشاعر المنهكة، حيث يعتبر هذا الوقت وقتا لإعادة شحن طاقتها لتقوى على العمل بعد الظهر.
وتقول «جانغ» «بدأت العمل في هذه الشركة للمرة الأولى في 23 من نوفمبر 2017. وكان ذلك بُعيْد افتتاح مركز الاتصال، ولذلك لم يكن النظام مجهزًا بشكل جيد ولم يكن هناك ما يكفي من الموظفين. وتدربت مدة يومين فقط وبدأت العمل على الفور. وكنت لا أعرف شيئًا عن العمل، لذا أحيانا كنت أقول للعميل «سأتصل بكم مرة أخرى»، ثم أطلب من زملائي السابقين المساعدة. وكان مركز الاتصال معروفًا بأنه بيئة عمل سيئة، ولكن في البداية لم أحس بذلك كثيرا».
ومع ذلك، بعد حوالي شهر من الانضمام للشركة، جاء الوقت للتعرف على ما يسمى بـ»بيئة العمل السيئة في مركز خدمة العملاء»، حيث كان أحد العملاء قد طلب تأجيل إرسال المنتج المطلوب، وإرساله لاحقًا. فسألته «متى تريدون استلام المنتج بالضبط؟»، وما إن طرحتْ هذا السؤال، حتى قام العميل بشتمها. بدا من صوته أنه شاب. واستمر يكيل الشتائم لـ»جانغ» ويصبّ عليها اللعنات بالرغم من محاولاتها المتكررة لاستيعابه وامتصاص غضبه. وفي نهاية المطاف، أنهت «جانغ» المكالمة بالقول «من الصعب عليّ متابعة الاستفسار منك الآن لأنك تستخدم كلمات غير لائقة جدا». وتركتها هذه المكالمة في حالة نفسية صعبة ووجدت نفسها بحاجة إلى البكاء، لذا خرجت من المكتب وذهبت إلى ملعب أطفال قريب، حيث بكت لفترة طويلة وهي جالسة على أرجوحة في ذلك اليوم. ولا تزال تتذكر صوته ورقم هاتفه حتى الآن.
وفي عالمنا هذا، هناك أشياء لا نستطيع فهمها أو لا نريد فهمها أو لا يستحق الأمر منا أن نحاول فهمها. ولكن أحيانا يجب علينا قبولها والاعتراف بها. وعندما يتراكم الحزن وعدم العقلانية والمآسي التي يسببها الظلم، يلجأ الناس إلى البحث عن أسباب خاصة لبقائهم على قيد الحياة.
«هم يشتمون ويخْتَطُّون أسلوبا سيئا في حياتهم لأنهم قد عاشوا بتلك الطريقة. ويحلّون أية مشاكل تواجههم من خلال الشتائم أو قول أشياء غير معقولة بصوت عال فقط.
كلما واجهتْ «جانغ» عميلا صعب المراس، تحاول أن تتفهم مواقفه وأفكاره. وعلى الرغم من أنها تتعامل مع عدد غير قليل ممن يريدون أن يصخبوا ويصرخوا فقط، كنتُ أتوقع أن تكون هناك أشياء ممتعة في بعض الأحيان. ولكن توقعاتي لم تكن صحيحة مطلقا ولا معنى لها بالنسبة إلى «جانغ»، حيث قالت إنها لا تستطع أن تجد أي شيء ممتع في العمل، ولكن في بعض الأحيان هناك أشخاص يقولون لها باحترام إنها تعمل بجد، أو يقولون لها «شكرا»، وبفضل ذلك تمكّنتْ من أن تتحمل هذا العمل إلى حد الآن. وأضافت أنه من الممكن الآن أن تتنبأ بشخصية المتصل بها، عبر الاستماع إلى صوته قليلا وحتى عبر سماع أنفاسه.
سألتُ «جانغ» هل تتذكرين شيئا محزنا؟» تنهدت وأجابت: «كان هناك عميل فقد كلبه أثناء استخدام كرسي التدليك، كان الكلب جالسا على الكرسي وشغّل العميل الكرسي، ولسوء الحظ، مات الكلب. وتلقيت أيضًا مكالمة من عميل آخر، حيث طلب نقل الكرسي من منزل والده إلى منزله. ربما كان ذلك لأن الشخص الذي كان يستخدمه، قد توفي. بالإضافة إلى ذلك، أثناء نقل كرسي التدليك إلى شقة في عمارة شاهقة بواسطة سلم مُثبّت على سيارة، وقد ألحّ العميل على ركوب الموظف المسؤول عن تركيب الكرسي على السلم مع الكرسي، مما أدى إلى حادثة سقوط».
خلال استراحة الغداء، تتجاوز «جانغ» الكافتيريا. إن غاية ما تشتهيه وتتمناه - أكثر من أي وجبة طعام- هو مكان هادئ يُطبق عليه الصمت، لتستمتع بوقت لا تكون فيه مضطرة على الاستماع لأحد أو التحدث مع أحد. ومثلما يحتاج الجسم إلى الأكل ليقوى على التعب الجسدي، تحِنّ الروح إلى الصمت والصفو للتخفّف من المشاعر المنهكة.
كيفية التخلص من التوتر

إذا كان من المستحيل أن نجعل بيئة العمل سعيدة، هل هناك طريقة للتخفيف من الضغط على الأقل؟ ردّا على هذا السؤال، ذكرت «جانغ» هذه القصة الحقيقية، كان هناك موظف يعمل في مركز اتصال آخر، وكان يتحدث، داخل المصعد، إلى زميل له حول «عميل غريب أجرى مكالمة غريبة»، وكان «ذلك العميل الغريب» يركب في المصعد نفسه، وكان يستمع إلى ما قاله الموظف عنه، فقام برفع دعوى ضده. وحدث ذلك في مركز اتصال آخر، لكن هذه القصة انتشرت بسرعة في مكان العمل الذي تعمل فيه «جانغ». إنه أمر مخيف للغاية ومحرج لأي شخص يعمل في هذا القطاع. ونظرًا لأنها وظيفة تتعامل مع العملاء الذين لا تعرف وجوههم، تقول إنه بغض النظر عن مدى حدوث الأشياء غير السارة أو المؤسفة، ليس لديها خيار سوى أن تحاول نسيانها.
«حتى بعد البكاء بسبب التعرض للإهانة، يجب أن أكون سعيدة لتلقي المكالمة التالية. ولا أستطيع الخروج من المكتب وتهدئة نفسي لأنني أستمر في تلقي المكالمات. لذا، بعد أن أغلق الهاتف أولا، أتحدث مع نفسي. وعندما أفعل ذلك أنظر حولي، فأجد الجميع يجلسون في أماكنهم ويتحدثون لأنفسهم بصوت خفيض مثلي».
ومع ذلك، فمن المريح جدًا أن تتمكن من إنهاء يومها في الساعة السادسة مساءً كل يوم دون استثناء. وعندما يحين وقت العودة إلى المنزل، تغلق باب قلبها كما لو كانت تغلق باب منزلها.
تبذل «جانغ» جهدها بطرق مختلفة لتجنب الإجهاد. وتقول «أضع عدة أنواع من العطر في المكتب وأرشها. وعندما تتغير الرائحة، يتغير الهواء، مما يعطيني نوعا من الراحة النفسية. وفي بعض الأحيان، أشرب المشروبات الكحولية مع زملائي بعد ساعات الدوام، ولكن في هذه الأيام عادة ما أعود إلى المنزل مبكرًا. هذا بسبب فيروس كورونا المستجد، وأحيانًا أحتاج إلى وقت لا أفعل فيه أي شيء».
نظرة إيجابية إزاء الواقع
خلال السنوات العشر الأولى من تخرجها في المدرسة الثانوية، كانت تعتبر موظفة لا يمكن التعامل معها بسهولة في مكان عملها الأول، حيث كانت تتعامل مع الأشخاص الذين يسلكون مسلكا غير لائق في التعامل معها، بمبدأ «العين بالعين والسن بالسن»، وفي الوقت نفسه، كانت تحب التسكع مع الناس أيضا. ولكنها الآن لا تفضل أن تختلط مع الناس كثيرا وتحب أن تكون بمفردها.
وفي الآونة الأخيرة، عندما أخبرت «جانغ» أحد العملاء بأنه يجب عليه دفع مبلغ من المال قبل تقديم خدمات الإصلاح، رد العميل بالقول «آمل أن تصابي بفيروس كورونا المستجد وتموتي». وفي هذه اللحظة، فكرت «جانغ» بأخيها الأصغر، الذي توفي فجأة قبل بضعة أشهر، وكذلك في والدتها التي تعيش بمفردها. وفي تلك الليلة، كتبت ما يلي في مذكراتها: «في هذه الأيام، بعد أن انتشر فيروس كورونا المستجد، لا يمكن أن نجد معنى للعناق البشري تمامًا، فقد أخذت بحمل دمية بطول 60 سم للإحساس بشعور العناق. إن معانقة الدمية الصغيرة والناعمة والخفيفة ذات الشكل الدائري، تعطيني راحة نفسية. ويبدو أن ارتداء الكمامة ليس هو السبب الوحيد الذي يجعلني أشعر بصعوبة في التنفس وتورم أحبالي الصوتية دائمًا من الجفاف، وبحلول فترة ما بعد الظهر يتغير صوتي مقارنة بما يكون عليه في الصباح. وهناك كتلة داخل حلقي كبيرة جدًا لدرجة أنه لا يمكنني ابتلاعها. ولكن حنجرتي على ما يرام في الواقع، ولكن أشعر وكأنني أحاول ابتلاع شيء ساخن وكثيف قبل أن يقفز من فمي. اليوم، شتمني أحد العملاء قائلاً «آمل بأن تصابي بفيروس كورونا المستجد وتموتي». أنا الابنة الوحيدة التي بقيت لأمي. ولكنهم يريدون لي أن أموت».
أرادت «جانغ» عندما كانت صغيرة أن تكون كاتبة، ولكن هذا الحلم أصبح بعيد المنال. والآن، حلمها هو عدم الإضرار بالآخرين، وأن تعيش حياة رقيقة بسيطة. وأيامها تبدو وكأنها تكرار لأشياء بسيطة فقط. لا ترغب بمحو أي جزء من حياتها. بل تريد ألا تندب حظها على الطرق التي لم تسلكها، أو تنغمس في الندم على الفرص التي ربما فقدتها في الماضي.
وتقول «ما دام الناس لا يزالون بشرًا، فإن العالم سيستمر في هذا الاتجاه، بغض النظر عن الخيارات التي أتخذها. وأحيانا، آمل أن تتوقف الدنيا للحظات. ومع ذلك، أرغب في الاستفادة والتعلم من الوقت الذي أعيشه، والعثور على نفسي التي تجاهد في هذه الحياة وتبذل قصارى جهدها في الاستمرار والبقاء قيد الحياة. وأعتقد أن تلك هي الحياة».