تعبّر رقصة طائر الكركي، المعروفة باسم «هاكتشوم» التي تمثل نوعا من الفنون الأدائية الشعبية الكورية التقليدية، عن وقار رجال الدين الكونفوشيوسيين في عصر جوسون من خلال محاكاة حركات طائر الكركي. ومع عدم وجود مصادر تاريخية متاحة عن أصل هذه الرقصة، فمن المفترض أن الرقصة تطورت من بعض أشكال الرقص الشعبي. ورقص طائر الكركي في منطقة «دونغنيه»، المصنف باعتباره واحدا من الممتلكات الثقافية غير المادية رقم 3 من مدينة بوسان، يتميز بطابعه الارتجالي.
ترمز رقصة طائر الكركي التي تؤديها مجموعات من الراقصين ال يقل عددهم عن ثالثة، وقد يصل عددهم إلى العشرات أو أكثر، إلى الروح السامية والمثل العليا لعلماء الكونفوشيوسية من خالل محاكاة حركات طائر الكركي. © بإذن من "لي سونغ هون"
إن كلمة «دونغنيه» ليست اليوم إلا اسما لإحدى المناطق الإدارية التابعة لمدينة بوسان ، ولكنها في عصر مملكة جوسون (1392-1910)، كانت مركزًا إقليميًا رئيسيًا للفنون والثقافة، حيث كان يتردد رعاة الفنون الأثرياء على معهد تدريب الفنانات المحترفات المعروف في كوريا باسم «غيسينغ»، المتاخم لمكتب الحكومة المحلية. كما أن «دونغنيه» الشهيرة اليوم بينابيعها الطبيعية الحارة مصدر جذب سياحي للراغبين في الترفيه والتسلية.وثمة مصطلح على صلة بـ»دونغنيه ياريو»، وهو يمثل نسخة محلية من الدراما الراقصة باستخدام الأقنعة، يتم تقديمها في أول يوم يكتمل فيه القمر في السنة القمرية، بمشاركة مختلف الراقصين. وتقول الأسطورة المحلية إنه في يوم من الأيام، ظهر رجل يرتدي زي النبلاء المسمى «يانغبان»، ورقص بأناقة، وكان الجمهور مفتونًا بحركاته الرائعة التي رأوا أنها تشبه حركات طائر الكركي، ومن هنا أُطلق على هذه الرقصة اسم «رقصة طائر كركي دونغنيه «.
هذا ما أفاد به ورواه «لي سونغ هون» الذي صنفته مدينة بوسان باعتباره «الكنز الثقافي الحي»، تقديراً لخبرته التي لا نظير لها في موضوع الرقص، حول أصل رقصة دونغنيه. ولكن هذا يظل مجرد جزء من الصورة ولا يعبّر عن الصورة بأكملها.
«إنه رقص شعبي. ولم يتم توثيق التفاصيل عن نشأته رسمياً، ولذا لا يمكن تخمينها إلا بالاعتماد على ذكريات الشيوخ المحليين، بالإضافة إلى ذلك فإن مفهوم التراث الثقافي غير المادي لا يشير إلى «الشكل الأصلي»، ذلك أنه طرأ عليه الكثير من التغيير والتطوير والتعديل بالزيادة والحذف. ونظرا لأنه كان قد تم حظر ممارسة رقصة «دونغنيه ياريو» أثناء الفترة الاستعمارية اليابانية بغية محو الثقافة الكورية واقتلاعها من نفوس الكوريون وذاكرتهم، فإن الرقص الذي كان يتم عرضه قبل ذلك الوقت، ربما كان نسخة مختلفة عن الرقص الذي يؤدى حاليا».
يرى "لي سونغ هون" أن من بين الخصائص المميزة لرقصة طائر الكركي، مكونات مرتجلة يتم إدراجها بين الحركات المحددة مسبقا.
«على الرغم من أن السيد «لي» ليس رجلًا طويلًا ولا ضخما، فإنه يهيمن على المسرح أثناء الرقص، حتى لكأن الأمر يبدو وكأن طائر الكركي يتلبّس داخله. وأعتقد أن رقصه يصل إلى درجة الكمال».
روح رجل الدين الكونفوشيوسي
بصرف النظر عن أصل الرقصة المثير للجدل، فإن الشكل الحالي للرقصة يشبه رقصة القناع الشعبي لمنطقة غيونغسانغ في جنوب شرقي كوريا، مع تعديلها في تقليد حركات طائر الكركي. وما يثير الفضول في هذا الصدد أنه على الرغم من أنه كان ولا يزال يؤديها بأناقة راقصون يرتدون الزي الخاص برجال الدين الكونفوشيوسيين، فإن الراقصين ليسوا من رجال الدين في واقع الحال.
«لم يكن رجال الدين يرقصون في فترة جوسون أبدًا، لأنه كان من المفترض أن يكرسوا أنفسهم لدراساتهم فقط، وبعبارة أخرى، كانوا يرون أن الرقص لا يتناسب مع مستواهم العالي ولا مع وضعهم الاجتماعي. ومع ذلك، فمن المعروف أن رقصة طائر الكركي تجسد روحهم، وقد يعود السبب في ذلك إلى أن الشخصية النبيلة لرجل الدين الكونفوشيوسي كانت مرتبطة بالصورة النبيلة لطائر الكركي، وبهذا المعنى، كان يجب على الراقصين في الماضي، التعبير عن روح رجال الدين ومُثُلهم».
وفي السابق، كان الرقص يؤديه راقص واحد فقط، وغالبًا ما يؤدي رقصة طائر الكركي حاليا مجموعة من ثلاثة راقصين على الأقل، وقد يصل عدد المشاركين في الرقص إلى العشرات أو أكثر. وتتكون الرقصة من 13 حركة مختلفة وتستمر في مجملها حوالي 14 دقيقة و30 ثانية. وبالنسبة إلى الراقص «لي»، فإن الحركة المثالية للرقص هي حركة «بيه غيم سا وي» التي تعني التمايل مع الثبات في المكان ذاته، حيث يخطو الراقص خطوة طويلة إلى الأمام ويدور حول نفسه بشكل لولبي إلى الأعلى ثم إلى الأسفل مع ثني الركبتين. وثمة نوعان آخران من حركات الرقص البارزة ، وهما محاكاة حركات طائر الكركي أثناء رحلته، حيث يركض فيها الراقص وذراعاه ممدودتان وتتموّج أكمام ردائه الواسعة خلفه كأنه وسط طيور ينظر حوله بحثًا عن الطعام، ويقوم الراقص بتحريك ذراعيه ارتفاعا وانخفاضا في الجزء الخلفي وكأنهما جناحان يرفرفان، والانحناء إلى الأمام عند الخصر وتحريك عنقه يمينا ويسارا من جانب إلى آخر.
وعلى الرغم من أن تلك الحركات تبدو بسيطة ، فهي تتطلب درجة من الكفاءة لتنفيذها بشكل صحيح. ويقول «لي» إن راقصي الباليه يقفون على أصابع أقدامهم، فيما يقف معظم فناني الرقص الكوري التقليدي على أعقابهم، ولكن في رقصة طائر الكركي يعتمد الراقص على استخدام باطن قدمه بأكمله، حيث لا بد لنا من أن نبدي الشعور بالغبطة مع ثني الساقين وتقويمهما، مع تقليد حركات طائر الكركي الذي يتبختر في مشيته على الثلج.
أما الجزء الأكثر صعوبة في الرقص فهو السيطرة على التنفس. وأوضح «لي» أنه إذا تم قياس شدة التنفس على مقياس من واحد إلى عشرة، فإن الراقصين الكوريين التقليديين عند أدائهم رقصة مثل رقصة الراهب أو سالبوري (رقصة طرد الأرواح الشريرة) تتراوح شدة تنفسهم ما بين المستويين الرابع والسابع، فيما يتطلب رقص طائر الكركي المزيد من الصعود والهبوط في التنفس، حيث تتراوح شدة التنفس ما بين المستوى الثاني والثامن بشكل مفاجئ.ومن بين الخصائص الأخرى للرقص، مكونات مرتجلة يتم إدراجها بين الحركات المحددة مسبقا. كما يرقص الراقصون بطريقة حرة ولكنها منتظمة في الوقت نفسه، بالنظر إلى حالة المرحلة وعدد الراقصين في المجموعة.
يقود "لي سونغ هون" مجموعة من الراقصين الذين يؤدون رقصة طائر الكركي في مركز أوسان للثقافة والفنون الواقع في محافظة غيونغ غي، بتاريخ 6 من سبتمبر 2019 ،كجزء من فعالية أقيمت بعنوان " دعونا نستمتع بالفنون".
مسايرة موسيقية فريدة
يتم عرض رقصة طائر الكركي مع عزف مجموعة نموذجية من آلات الإيقاع، بما في ذلك الآلة الموسيقية «كوينغ غاري» وهي آلة إيقاع صغيرة الحجم، وآلة «جينغ» ذات الحجم الكبير وطبلة «جانغو وهي على شكل ساعة رملية، والطبل الكبير «بوك». ويُشارك في هذه الرقصة، التنغيم البشري المعروف في كوريا باسم «غو أوم»، حيث يكون التنغيم في الرقص، بمزيج من الأصوات المقلدة للآلات الموسيقية مثل الآلة الموسيقية ذات الاثني عشر وترا المُسماة «غاياغم» أو الآلة ذات الأوتار السبعة «آجينغ» أو الكمان ذي الوترين المسمى «هايغووم «، إلى جانب تقليد الأصوات الطبيعية.
ويقوم «لي» بتحقيق التناغم بين رقصه وبين التنغيم، ولا يرقص حسب عزف «كوينغ غاري» الذي يوفر بنية إيقاعية للرقص. ويقول إن «الصوت البشري أكثر تعبيرا عن المشاعر، ولذلك فمن الأسهل لي أن أركز على الرقص مع صوت التنغيم، فالانسجام يتحقق بين آلات الإيقاع والأداء الصوتي البشري بعضهما مع بعض.
ولا يتلفظ المغني المعني بالتنغيم بأية كلمات ذات معنى أو تعابير خاصة، ولكنه يتكلم بصوت عالٍ أو يصدر أصواتًا تدعم حركات الرقص أو تملأ الفراغات بينها. ولا يمكن أن يقوم بها أي مغنٍ عادي، ولكن هناك من يساعد «لي» في هذه العملية الصعبة منذ فترة طويلة، وهي «كيم شين يونغ».
وكان الغناء مجرد هواية لـ»كيم» عندما التقت بمعلمها، ولم تكن تعلم أي شيء عن التنغيم. وقالت «كيم» «كان صوت معلمي مختلفًا تمامًا عن أي شيء سمعته من قبل، وكان ممتعًا وسريعًا». ومع ذلك، لم يكن باستطاعتها الحصول على دروس رسمية من معلمها، وبدلاً من ذلك، استغلت كل فرصة للاستماع إلى أغانيه في عروضه العامة. وتذكرت قائلة «كان عليّ أن أتعود على كل مجموعة إقليمية متنوعة من الأغاني التقليدية الكورية، بما في ذلك الأغاني الموجودة في المقاطعات الشمالية الغربية (سودو سوري)، والمقاطعات الجنوبية (نامدو سوري) ومقاطعة غيونغغي الوسطى، لاكتشاف ما يمكنني فعله بشكل أفضل. وعندما أصبحت أكثر خبرة، تمكنت من تحديد أسلوب التنغيم الملائم لكل نوع من أنواع الرقص المختلفة.»
ويتطلب الطابع غير المتوقع للرقص، أكثر من مهارة يتم اكتسابها عن طريق الحدس بدلاً من التعلم من خلال التدريب الروتيني. وهناك اختلاف بين رقصة طائر الكركي وأداء «بانسوري» التي تعني نوعا من الموسيقى الكورية القصصية، أو غيرها من الأغاني الشعبية، لأن الرقص ليس له قصة، ولذلك يجب على المغني أن ينظر في الرقصة نفسها، للعثور على الإلهام الارتجالي.
وتقول «كيم» «بينما تقوم بالتنغيم للرقص، قد تشعر أو لا تشعر أنه يمكنك رؤية الرقص، وهذا يتوقف على مدى معرفتك به جيدًا»، وتضيف «أشعر بالراحة عند الغناء للسيد «لي». وأوضحت « نحن نتعاون منذ فترة طويلة حتى تكوّنت لديّ فكرة واضحة عن أسلوبه في الرقص، وكيف يمكنني أن أجعل موسيقاي تتوافق مع كل تفاصيل حركاته. ولم يمض وقت طويل على وصولي إلى هذه المرحلة. وهناك راقصون آخرون ممتازون ولكن أجد صعوبة في التعاون معهم. وفي هذه الحالة لا أستطيع التنغيم بالطريقة التي أريدها. «
وبعد أن استمع «لي» بانتباه إلى قولها، قال بصوت حازم « بعد أن يتقن المغني جميع أشكال الغناء، يجب عليه أن يحاول أن ينقل صوته إلى كل أفراح البشر وأحزانهم، ويجب أن يخرج الصوت الذي يكمن في داخله بغض النظر عن أيام المشقة وأيام السعادة وأيام الألم. ونظرًا لأن صوت «كيم» يعكس حياتها، ينبغي عليها أيضًا تأديب نفسها بتأمل صارم، وفي الوقت نفسه تقوم ببناء هوية صوتها وأسلوبها الخاص في التنغيم.»
وقد يكون هذا أيضًا ما قاله «لي» لنفسه مرارًا وتكرارًا على مدار الثلاثين العام الماضية، كلما حاول الوصول إلى عمق الرقص في داخله؛ في نفسه وفي جسده. ويجب أن يكون رقصه دليلا على جميع لحظات حياته، ومن بينها، ذلك اليوم الذي تم طرده فيه من منزله، وهو لم يتجاوز بعد 15 عاما من العمر، بسبب شوقه ليصبح راقصًا، و10 سنوات من فترة شبابه، التي عاش بها في معهد الرقص وواجه معاملة الآخرين القاسية، والوقت الذي غير فيه مسيرته المهنية من الرقص الحديث إلى الرقص التقليدي بعد تعرضه لإصابات في العضلات، وكذلك اللحظة التي وجد فيها رقصة طائر الكركي أثناء تعلمه للفنون المسرحية الشعبية المختلفة في منطقة دونغنيه.
وردّت «كيم» على نصيحة «لي» بإشارة تفيد أنها تفهم، وقالت «حسب قول معلمي، فإن المغني الحقيقي لا يغني بفمه فقط، ولكن يغني بكامل جسده وبكامل عقله وبكامل أحاسيسه أيضا. ويجب أن أبكي كثيرًا وأدرس كثيرًا حتى ينبت الكون وتطلع فيّ الأغاني».
غادر "لي سونغ هون" منزل ذويه وهو في الخامسة عشرة من عمره، ودرس الرقص أثناء إقامته في معهد للرقص. وبدأ في أداء رقصة طائر كركي "دونغنيه" كعضو في فرقة الرقص التابعة لبلدية مدينة بوسان في أوائل الثمانينيات. وفي عام 2016 ،حاز على لقب الكنز الثقافي الحي لبراعته في أدائه رقصة طائر الكركي في مدينة بوسان.
تسعى "كيم شين يونغ" المغنية المساعدة لرقصة طائر الكركي إلى تطوير صوتها الخاص، متجاوزة صوت معلمتها الراحلة "يو غوم سون"
عالم الخيال الجميل
الآن، يتربط الراقص والمغنية اللذان يقومان بالعرض معاً منذ فترة طويلة، بعضهما ببعض ارتباطا قويا عبر الفنون. وتقول «كيم» «على الرغم من أن السيد «لي» ليس رجلًا طويلًا ولا ضخما، فإنه يهيمن على المسرح أثناء الرقص، حتى لكأن الأمر يبدو وكأن طائر كركي يتلبّس داخله. وأعتقد أن رقصه يصل إلى درجة الكمال».
وبدوره ، يقول «لي» «يجب أن يعرف المغني أيضًا شخصية الراقص، ويمكن لـ»كيم شين يونغ» أن تتعامل مع شخصيتي المعقدة بشكل جيد لدرجة أنني أشعر بالراحة أثناء الرقص على تنغيمها. ولكنها تحتاج إلى ترك معلمها وراءها. وحتى لو أرادت أن تراعي شعور معلمها، فإنها تحتاج إلى أن تكون جريئة بما يكفي لإنتاج صوتها الخاص. وقد يصعب عليها فهم هذا الأمر في البداية، ولكنه سيساعدها في بناء أسلوب خاص بها لا يُضاهى».
وعندما سئل «لي» عن عمله الفردي، كان أكثر راحة، ربما لأنه يستطيع الآن أن ينأى بنفسه عن فنه، وقال إنه يخلق عالم الخيال الخاص به في اللحظة التي يقف فيها على المسرح ويسمع بداية الموسيقى، متصورًا أنه يتجول في جنة الداويست، وأنه في عالمه يحاول كل عام أن يجعله أفضل.وعلى العكس من ذلك، قدّمت المغنية «كيم» التي تعتقد بوضوح أنها لم تصل إلى عمق صوتها، ردًا بسيطًا مثل الطريقة التي كانت تجلس بها بجانب الراقص، وقالت إن المغني يلعب دورًا مساندًا في رقصة طائر الكركي، ولذا فهو بحاجة إلى متابعة الرقص واستيعابه. وهي تأمل ذات يوم أن تصل إلى الانسجام الكامل مع الراقص على المسرح.
وعلى الرغم من الاختلافات الواضحة في ردودهما، فإن الفنانين كانا بلا شك متشابهين، ويتصوران مشهدا يملؤه ألف شخص ويقومان بتأدية رقصة طائر الكركي في ميدان كوانغهوامون في قلب سيول. وبينما تتجه أنظار الحشد إلى وقار حركات الرجل النبيل، وترفرف ثياب الراقص البيضاء الطويلة مع الريح، ينطلق صوت المغنية في السماء وملء الأرض. في تلك اللحظة، يصبح العالم مكانا أكثر جمالا عندما يحاول الفنانان الاثنان صنعه بالرقص والغناء.