عندما نطلب البضائع عبر الإنترنت، تصل إلى بيوتنا بعد أن تمرّ بمراحل عديدة، منها تفريغها من الشاحنات التي غالبا ما تكون حمولتها زائدة. صوّر رسام الكاريكاتير "لي جونغ-تشول" خبراته لمدة ستة أعوام عندما عمل في شركة للتوصيل في كتاب رسومات كرتونية له بعنوان "قا داي غي"، وهي عبارة عامية تدل على عملية تفريغ البضائع من الشاحنات باللغة الكورية.
تخرجت في كلية الفنون في أحد الأقاليم ثم انتقلت إلى العاصمة سيول لتحقيق حلمي منذ الطفولة بأن أصبح رسام كاريكاتير إلا أنه لم تكن لدي أي خطة محددة. في البداية، قدم لي والداي دعما ماليا لفترة قصيرة، لكن دعمهما لم يكن كافيا لتغطية تكاليف المعيشة المرتفعة في سيول. ولذلك، حاولت البحث عن عمل بدوام جزئي لكسب الرزق قبل أن أصبح رسام كاريكاتير. كنت أريد أن أعمل لخمس ساعات أو ست في اليوم، لكي أُمضي بقية اليوم في رسم الكاريكاتير، فجذب نظري إعلان عن وظائف شاغرة في تحميل البضائع وتفريغها في الفترة الصباحية. أليس هذا العمل شاقا جدا؟ بعد لحظة من التردد، اتصلت برقم الهاتف المكتوب في الإعلان، لأن موقع العمل قريب من بيتي وأجرة العمل أكثر من الحد الأدنى للأجور. سألني المسؤول "هل يمكنك أن تبدأ العمل غدا؟" وقلت له "نعم، أستطيع". هكذا بدأت العمل بدوام جزئي في شركة توصيل الطرود.
نشر رسام الكاريكاتير "لي جونغ-تشول" أول كتاب رسوم كرتونية له "قا داي غي"ّر فيه خبراته كعامل بدوام جزئي يتولىفي دار "بوري" للنشر عام ٢٠١٩ .وصومهمة تفريغ الطرود من الشاحنات في إحدى شركات التوصيل. قد جذب هذا الكتابأنظار الحضور في معرض اليبزغ للكتاب الذي أُقيم عام ٢٠١٩ في ألمانيا نظرالموضوعه الفريد الذي يشير إلى واقع المجتمع الكوري.
أول يوم بدوام جزئي
يتم توصيل البضائع التي يشتريها الزبون على الإنترنت إلى بيته بعد المرور بعدة مراحل. أولا، يغلف البائع بضائعه بعد تلقي الطلب عبر الإنترنت ويضعها في طرد، ثم يعطي الطرد إلى موظف شركة التوصيل التي يتعاقد معها، وينقلها الموظف إلى أحد مستودعات الشركة. وبعد ذلك، يتم شحن الطرد إلى المركز اللوجستي التابع للشركة، حيث يتم فرز الطرود حسب المناطق طول الليل، ويُحمّلها العمال بدوام جزئي في الشاحنات المتجهة نحو فروع الشركة في المناطق المختلفة. وفي كل فرع للشركة، ينزّل العمال الطرود التي تحملها الشاحنات لكي يأخذها سائقو التوصيل.
بدأتُ أول يوم لي بصفتي عاملا بدوام جزئي في أحد فروع شركة التوصيل. وسألني المدير عمّا إذا كانت لديّ خبرة في "قا داي غي". كانت عبارة "قا داي غي" غير مألوفة لي، وعرفت فيما بعد، أنها عبارة كورية عاميّة تدل على عملية تحميل الطرود في الشاحنات وتفريغها منها. أجبت أن ليس لدي أي خبرة، فعرّفني بعامل آخر بدوام جزئي سيعمل معي. كان رجلا في الخمسينيات من عمره ذا شعر أشيب. لا أستطيع أن أقول إنه كان رجلا لطيفا، ولكنه شرح لي كيفية العمل بالتفصيل. لم يسألني عن أي شيء إلا اسم عائلتي، لأنه يعرف أن هذا العمل شاقّ جسديا ويُحْجم عنه الكثير من الناس. كان يناديني "لي" وكنت أناديه "السيد وو".
قابلت فئات مختلفة من الناس أثناءالعمل؛ العب كرة قدم سابق كان حارسمرمى في فريق في دوري الدرجةالثالثة الكوري، ورجل يدرس المتحاناتالشرطة الوطنية، وموظف مصنع أشباهالموصالت تزوج صغيرا واُضطر للعملاإلضافي بدوام جزئي لكسب المزيد منالمال، ورجل متقاعد كان يعمل موظفاحكوميا لمدة ثالثين عاما، ومدير عمليةالتفريغ في منتصف األربعينات من عمرهكان يسكن مع والدته المريضة. ولكلشخص قصة خاصة.
"علب الصفيح" ودعامات الظهر
كانت مهمتنا تنزيل الطرود من الشاحنات ووضعها على حزام ناقل. وعندما نضع الطرود على الحزام الناقل، يأخذ سائقو التوصيل الذين يقفون بجانب الحزام الطرود المخصصة لهم. كانت الشاحنة الواحدة تزن١١طنا، وتحمل ما بين ٧٠٠ و٨٠٠ طرد في المتوسط وبحد أقصى ألف طرد. كنا نعمل في فرق، كل فريق من فردين، وكان على كل فريق أن يتعامل يوميًا مع أربع شاحنات أو خمس في المتوسط. وإذا حل موسم الأعياد، ازداد عدد الشاحنات ازديادا كبيرا. وكانت عملية تفريغ الشاحنة الواحدة تستغرق ما بين ٤٠ و٥٠ دقيقة. وكنت عندما أكمل تفريغ الشاحنة الواحدة بشكل كامل، أشعر بارتعاش في رجليّ. وكلما عملت داخل الشاحنة التي كنا نسميها بـ"علبة الصفيح"، شعرت بانسداد في الأنف والحلق بسبب الغبار، فضلا عن تَصبُّب العرق من كل جسدي نظرا لسوء التهوية داخلها. عندئذ أدركتُ لماذا كان الأجر أكثر من الحد الأدنى للأجور بحوالي ألفين أو ثلاثة آلاف وون كوري. كان العمل يبدأ في الساعة السابعة صباحا وينتهي بعد وقت الغداء حيث ينطلق سائقو التوصيل إلى بيوت الزبائن.
مع مرور الوقت، نشأت صداقة بيني وبين سائقي التوصيل أيضا. عادة ما كانوا يعملون من الساعة السابعة صباحا حتى وقت متأخر من الليل. وعندما يبلغ موسم توصيل الطرود ذروته، لا ينتهي عملهم قبل منتصف الليل. ومع ذلك، كانوا يجنون أجرا متواضعا مقابل توصيل الطرود، أي يحصلون على أقل من ألف وون كوري لكل طرد. وكان سائقو التوصيل يريدون أن يحصلوا على الطرود بأسرع وقت ممكن، بينما نحن عمال التحميل والتفريغ بدوام جزئي كنا نسعى لأخذ قسط من الراحة أثناء العمل، مما يعني تضارب المصالح، وهذا يثير الصراع بيننا وبينهم أحيانا.
كنا عندما نعمل في الهواء الطلق نتعرض للبرودة في الشتاء والحرارة في الصيف لأن أماكن العمل في فروع شركة التوصيل غالبا ما تكون موجودة خارج المبنى. وعندما يأتي فصل الخريف، نعد أنفسنا لمواجهة "أزمة تدفق الطرود" التي تتكرر كل سنة بمناسبة حلول عيد الحصاد الكوري المسمى بـ"تشو سوك"، حيث تبدأ هجرة واسعة النطاق للبضائع من مختلف أرجاء شبه الجزيرة الكورية، ومن هذه البضائع الأرز والملفوف الصيني المملح وغيرهما من المحاصيل الزراعية، فضلا عن المخلل الكوري التقليدي "كيمتشي". وكلما حل هذا الموسم، لبسنا دعامات أسفل الظهر للتعامل مع الكمية الهائلة من الطرود.
ترك "السيد وو" العمل في شركة التوصيل، ثم بدأ يعمل ناقلا للخضراوات ليلا في سوق المنتجات الزراعية والمائية الواقعة في ضواحي العاصمة سيول. وتركتُ أنا العمل أيضا وبدأت أعمل معه في تلك السوق. حظيت بفرصة لنشر قصص مصورة متسلسلة للأطفال في إحدى دور النشر أثناء العمل في السوق. وعندما أخبرته بذلك، كاد يطير من الفرح، وقال لي "لا ترجعْ إلى هنا"، فقلت له "نعم". مع ذلك، لم أستطع أن أكسب ما يكفي من الرزق بالاعتماد على العمل برسم القصص المصورة للأطفال، وبدأت العمل بدوام جزئي في شركة توصيل أخرى. لم أخبره بذلك لأنني أردت له أن يتذكرني قائلا "عملت مع شاب اسمه "لي جونغ-تشول" لم يتخل عن حلمه بأن يكون رسام كاريكاتير وحقق حلمه في نهاية المطاف".
كانت الشاحنة الواحدة تزن ١١ طنا، وتحمل ما بين ٧٠٠ و٨٠٠ طرد في المتوسط وبحد أقصى ألف طرد.
كنا نعمل في فرق، كل فريق من فردين، وكان على كل فريق أن يتعامل يوميًا مع أربع شاحنات أو خمس في المتوسط. وكانت عملية تفريغ الشاحنة الواحدة تستغرق ما بين ٤٠ و٥٠ دقيقة.
قصص متنوعة
كان العمل في شركة التوصيل أصعب مما توقعته، إلا أنني استطعت أن ألتقي بفئات مختلفة من الناس أثناء العمل؛ لاعب كرة قدم سابق كان حارس مرمى في فريق في دوري الدرجة الثالثة الكوري، ورجل يدرس لامتحانات الشرطة الوطنية، وموظف في مصنع أشباه الموصلات تزوج صغيرا واُضطر للعمل الإضافي بدوام جزئي لكسب المزيد من المال للإنفاق على أسرته، ومتقاعد كان يعمل موظفا حكوميا لمدة ثلاثين عاما، ومدير عملية التفريغ في منتصف الأربعينيات من عمره كان يعيش مع والدته المريضة. ولكل واحد منهم قصة خاصة.
أصبحت مقربا من زملائي مع مرور الوقت وأردت أن أرسم قصصا مصورة عنهم. وبدأت تسجيل قصصهم المتنوعة أثناء العمل. رغبت في نقل قصصهم إلى الآخرين عن طريق الرسم وإعطائهم أملا بمستقبل جيد. وفي نهاية المطاف، نشرت كتاب رسوم كاريكاتيرية تحت عنوان "قا داي غي" الذي يحتوي على قصصهم في عام ٢٠١٩.يسلط مجتمعنا الضوء على خدمات التوصيل وسط أزمة تفشي فيروس كورونا المستجد. نستطيع أن نحصل على كل ما نريده عن طريق التوصيل في أي وقت وفي أي مكان دون تفاعل مباشر بيننا وبين الباعة، إلا أن سائقي التوصيل يعانون من ضغط العمل المتزايد حتى أن بعضهم يفقد الوعي أثناء العمل. يمكن أن نجد عبارات متنوعة مكتوبة على صناديق الطرود؛ "لا ترمِ"، "لا تقلّب"، "قابل للكسر" وإلخ. ذات يوم، خطرت ببالي فكرة أن هذه العبارات التحذيرية لا تنطبق على بضائع التوصيل فحسب، وإنّما على الإنسان أيضا. ولهذا، عندما أقابل شخصا في هذه الأيام، أقول له "احذر من الانكسار جسديا وعقليا!"