من الصعب ألا تهفو قلوبنا إلى الراحة التي تمنحها خدمات التوصيل في الوقت الذي يشهد فيه العالم ازدهار خدمات التوصيل، حيث يمكن توصيل كل الأشياء، ابتداء من الطعام وحتى غسيل الملابس إلى البيوت بشكل مباشر. ومع ذلك، هناك اختلافات في القيم بين الأجيال؛ إذ ينظر الجيل القديم إلى خدمات التوصيل على أنها نوع من الترف، بينما يراها الجيل الجديد نوعا من أنماط الحياة الجديدة.
يا إلهي! مرة أخرى؟ ما إن أستيقظ من النوم وأذهب إلى المطبخ حتى أجد بقايا الأطعمة تتكدس على مائدة الطعام. أفتح بغضب غطاء سلة القمامة فأجدها مليئة بعبوات الطعام البلاستيكية. من المؤكد أن ولديّ استخدما خدمة توصيل الطعام الليلة الماضية بعد أن ذهبتُ إلى النوم.
لقد فقدتُ الرغبة في القيام بأي شيء رغم أني استيقظت من النوم في وقت مبكر للقيام ببعض الأعمال المنزلية. حسنا! وضعتُ الأطعمة المتبقية في الميكروويف وأخرجت الفجل المخلل الكوري الحارّ المسمى بـ"قاك دوغي" من الثلاجة. كانت الأطعمة لذيذة جدا حتى بَدَتْ ألذّ من الأطعمة التي طبختها رغم أني ما زلت غاضبة. لاحظتُ أن الغضب بدأ يتلاشى، ربما بفضل هذه الأطعمة اللذيذة، وأصبحت متفائلة حتى قلت في نفسي، "على كل حال، الحمد لله أنهما لم يأكلا كل شيء وأبقيا لي بعضا منها، أليس كذلك؟ لو أرادا أن يخادعاني ويتظاهرا بأنهما لم يأكلا أي شيء في الليلة الماضية، لتخلصا من الأطعمة المتبقية بشكل كامل. علاوة على ذلك، لحسن الحظ فأنا بهذا الوضع لا أحتاج إلى تحضير وجبة الفطور".
ذهبت إلى باب المنزل وحاولت فتحه لإلقاء النفايات من المأكولات إلا أني لم أستطع أن أفتحه بسهولة. عندما دفعت الباب بقوة، وجدت طردا بريديا يعرقل فتح الباب. ما هذا؟ يبدو أنه يحتوي على مأكولات طازجة، أخذته ودخلت إلى البيت. كانت فيه شرائح سمك السلمون النيئة والصلصة الخاصة بها وشرائح الستيك والخضراوات فضلا عن الجمبري المُتبّل بصلصة الصويا! كلها أطعمة جاهزة للأكل، وهذا يعني أنه يمكن أكلها بمجرد نزع الغلاف عنها ووضع الصلصة عليها أو تسخينها بالميكروويف. قلت في نفسي غاضبة، "لماذا طلب هذان الغبيان المأكولات التي يمكن طبخها في البيت؟"
سائق دراجة نارية يسير على طريق في سيول. يرغب جميع سائقي التوصيل أن يسيروا بسرعةوبأمان على طريق غير مزدحم.
غضب وصراع
عندما كنت في العشرينيات والثلاثينيات من عمري، لم أستطع تَخيُّل أن أطلب خدمة توصيل المأكولات إلى المنزل ما عدا المعكرونة السوداء "جاجانغ ميون" أو الدجاج المقلي، لأن صنع المأكولات كان يُعد من الأعمال التقليدية لربة المنزل. وبعد أن تزوجت وأنجبت طفلين، كان عليّ أن أذهب إلى المتاجر الكبيرة كل أسبوع لشراء الحليب المجفف والحفاظات للأطفال وغيرها من المستلزمات اليومية بسبب عدم توفّر خدمات التوصيل والإنترنت آنذاك. واعتدت أن أذهب إلى المتاجر بالسيارة مع طفليّ الصغيرين. أذكر أني دائما كنت أجد صعوبة كبيرة في نقل مجموعة كبيرة من المشتريات إلى صندوق السيارة.
لذلك، عندما ظهرت خدمات التوصيل على الإنترنت التي تمكّنني من شراء الأشياء الثقيلة مثل الأرز وصلصة الفلفل الحار "غوتشو جانغ" والماء المعدني عبر شبكة الإنترنت والحصول عليها عن طريق التوصيل المباشر، شعرت أني تحررت من الأعباء الثقيلة التي كنت أتحملها أنا وتتحملها كل ربّة بيت. ومع ذلك، لا أستخدم خدمات التوصيل إلا لشراء البقالة وبعض المستلزمات المنزلية التي تبيعها المتاجر، خلافا لولديّ اللذين يطلبان معظم الأنواع من المستلزمات اليومية، فضلا عن المأكولات باستخدام تطبيقات الهاتف الذكي. وفي الآونة الأخيرة، بدآ يستخدمان خدمات التوصيل السريع لطلب أطباق المطاعم المشهورة التي عادة ما يمتد طابور انتظار طويل أمامها. في الحقيقة، يطلبان كل شيء، مثلا يطلبان "جوك بال" و"بو سام"، وهما نوعان من اللحم المطبوخ بالبخار، والأمعاء المشوية "غوب تشانغ" وكعك الأرز مع صلصة الفلفل الحار "طوك بوكّي" وحتى المعكرونة الإيطالية. بعبارة أخرى فإن ولديّ يستمتعان استمتاعا كاملا بكل مزايا "عصر التوصيل الذهبي"، على العكس مني تماما.
خلافا لولديّ، أشعر بعدم الرضا كلما دعواني إلى تجربة الأطباق التي يطلبانها من المطاعم المشهورة. لا أستطيع أن أفهم لماذا يتكبدان هذه النفقات المالية التي لا بدّ أنها كبيرة في طلب المأكولات من المطاعم التي يمكن طبخها بتكلفة معقولة في البيت. أعتقد أني أستخدم خدمات التوصيل كأداة فعالة للحصول على ما أحتاج إليه في الحياة، بينما ولديّ يستخدمانها أكثر من اللازم حتى أن تصرفاتهما، في نظري، تعد نوعا من الترف. ولهذا السبب، لا أستطيع أن أستمتع بالأطباق التي يطلبها ولديّ. وهذا يجعلني أحيانا أشعر وكأني لا أواكب التغيرات في العصر الجديد.
١ .في هذه األيام، يترك سائقوالتوصيل الطلبات أمام أبواب الزبائنلمنع االتصال المباشر، وهو مشهدجديد ناتج عن تفشي فيروس )كوفيد-١٩.) © غيتي إميجيز
فطور في غمضة عين
عندما كنت غارقة في هذه الأفكار، خرجت ابنتي من غرفتها وقالت لي: "رائع! وصل طلبي إلى البيت في الوقت المتوقع. يا أمي، طلبت هذه المأكولات لإعداد وجبة الفطور من أجلك. ومنها الجمبري المتبل بصلصة الصويا الذي تحبينه".
كانت ابنتي تتحدث بسعادة بالغة ثم بدأت تغسل الخضراوات الجاهزة وسخنت شرائح الستيك في الشواية ووضعت الجمبري المتبل بصلصة الصويا في الطبق. وقالت لي:
"يا أمي، لا أستطيع أن أَعِدك بأن أحضّر وجبة الفطور لك كل يوم إلا أني سأحاول تحضيرها أحيانا. الليلة الماضية، ضبطت المنبّه لكي أستيقظ في وقت مبكر وأحضّر وجبة الفطور لك. ما رأيك؟ استخدمت واحدا من المواقع الإلكترونية للتسوق، والأشياء التي تُباع على هذا الموقع غالية قليلا إلا أنها مشهورة بجودتها العالية. طلبت هذه المأكولات رغم أسعارها الغالية لأنك تستحقين ذلك. ما رأيك؟ البنات أفضل من الأولاد، أليس كذلك؟"
بدا وكأنها تشعر بالرضا الكبير ولم أستطع أن أقول أمام هذا الوجه الباسم: "يا إلهي، لماذا تطلبين كل شيء حتى وجبة الفطور!". بذلت جهدي لإخفاء شعوري الحقيقي وجلست على مائدة الطعام أحاول الابتسام. وقالت لي:
"يا أمي، هذا الطبق من الجمبري ليس طبقا عاديا. هناك مطعم ياباني مشهور جدا في منطقة غانغ نام، وهو من الأطباق المشهورة في هذا المطعم. طلبته من أجلك لأني أعرف أنك لا تنفقين نقودك على تناول الطعام في هذا النوع من المطاعم. لا تسأليني عن ثمنه، بل استمتعي بطعمه اللذيذ. موافقة؟"
حاولت ابنتي أن تسكتني خوفا من أن ألومها وأقول إنها تُنفق مالها على شراء هذه الأشياء. لم أستطع أن أرفض طلبها وأكلت قطعة من الجمبري المشهور. كان مذاقه منعشا ورائحته زكية. وشعرت أنه يذوب في فمي كما لو كان قطعة من الثلج.
أم غريبة
قلت في نفسي، "حسنًا، عليّ أن آكل الطعام بكل تلذذ وسرور لأن ابنتي وفّرت المال لكي تشتريه لي. لا تتصرفي كأم غريبة"، ثم بدأت تذوّق الأطباق المتنوعة التي أعدّتها ابنتي. وفجأة، رنّ جرس الهاتف.
"يا ميونغ رانغ، هل أرسلت إليّ هذه الخضراوات؟ لماذا؟ أستطيع أن أشتريها في متاجر البقالة بسهولة. وبخاصة أن أسعارها رخيصة في هذه الأيام. لا حاجة إلى إزعاج نفسك".
كانت تلك خالتي الكبرى التي تعيش في مدينة إنتشون. وقلتُ لها:"أهلا بك يا خالتي، تلك الخضراوات طازجة جدا لأنه يتم تغليفها مباشرة بعد
تلقي الطلب. وتحتوي هذه المجموعة على أنواع مختلفة من الخضراوات، ومنها أنواع فريدة لا يمكن إيجادها في متاجر البقالة العادية. أرسلتها إليك لأني أعرف أنك لا تشترين هذا القبيل من الخضراوات. استمتعي بها!"
ردت خالتي علي قائلة:
"أنت على حق. لم أر هذه الأنواع من الخضراوات في الماضي وكلها طازجة للغاية. بصراحة، تعجبني كثيرا لكني قلقة لأنك أنفقت الكثير من المال بسببي".
كررت خالتي الكبرى شكرها عدة مرات وقلت لها "عفوا"، "لا شكر على واجب" عدة مرات حتى انتهت المكالمة. ابتسمت ابنتي التي كانت تستمع إلى مكالمتنا وهي تجلس مقابلي ثم قالت لي:
"رائع! أصبحت ماهرة في طلب الأشياء عبر الإنترنت أيضا".
رددت عليها ضاحكة:
"هل كنت تظنين أني لا أستطيع؟"
بصراحة، لا أحب شراء المأكولات الجاهزة، إلا أن هذا الأمر يُعد خيارا معقولا
بالنسبة لأولئك الذين يعيشون بمفردهم أو لا يجيدون الطبخ لأنهم يستطيعون أن يوفروا الوقت المطلوب لتحضير الطعام والتنظيف.
٢ .يزداد عدد الشباب الكوريين الذينيرون توصيل األطعمة ألفراد العائلةأو الضيوف طريقة أكثر فعالية منإعدادها بأنفسهم. © شوتر ستوك
اعتراف
بصراحة، لا أحب شراء المأكولات الجاهزة، إلا أن هذا الأمر يُعد خيارا معقولا بالنسبة لأولئك الذين يعيشون بمفردهم أو لا يجيدون الطبخ لأنهم يستطيعون أن يوفروا الوقت المطلوب لتحضير الطعام والتنظيف ويصرفونه في القيام بعمل آخر. كما أن خدمات توصيل المأكولات تحفز على تحقيق الديمقراطية داخل الأسرة لأنها تخفف الأعباء التقليدية التي تُلقى على النساء بشكل غير عادل. ويستطيع الزوج أن يطلب وجباته بدلا من الاعتماد على زوجته.
في هذه الأيام، أصبحت خدمات التوصيل جزءا مهما من حياتنا اليومية رغم أن قواعد استخدامها تختلف بين الأجيال. تناولت قطعة كبيرة من السيتك الساخن راجية أن تكون هذه الثقافة الجديدة خيرا في العصر الحالي.