حققت مملكة بيكجي التي ظهرت إلى الوجود في السنة الثامنة عشرة قبل الميلاد ازدهارا ثقافيا كبيرا، انطلاقا من الجزء الجنوبي الغربي الذي حكمته من شبه الجزيرة الكورية. وهي إحدى ممالك كوريا القديمة الثلاث، مملكة شيلا ومملكة كوغوريو. وظلت هذه المملكة قائمة إلى أن هزمها تحالف مملكة شيلا ومملكة تانغ الصينية سنة 660 للميلاد، وذلك قبل ثمانية أعوام من سقوط مملكة كوغوريو، مما أدى إلى قيام أول دولة موحدة للشعب الكوري. وعلى الرغم من أن بيكجي كانت أكثر فعالية ونشاطا من بين الممالك الثلاث في التبادلات التجارية والثقافية مع كل من الصين واليابان، وأنها لعبت دورا محوريا في إقليم شرقي آسيا، فإن كثيرا من تاريخها تم تدميره بعد سقوطها وطواه النسيان. ولكن بفضل اكتشاف العديد من المواقع الأثرية في العصر الحديث، عاد الوجه الحقيقي لمملكة بيكجي يظهر تدريجيا إلى الأضواء. وهذه رحلة إلى الماضي للبحث عن تراث هذه المملكة.

عندما يحل الظلام على قلعة جبل كونغ على امتداد تلالتُشْرف على نهر كوم، تأتي الأضواء على طول أسوارالقلعة. بطول يبلغ 2660 مترا، بنيت القلعة سنة 475للميلاد، مستفيدة من سلاسل الجبال والمُنْحدرات الطبيعيةإلى أبعد الحدود، وذلك لحماية "أونغجين" عاصمة مملكةبيكجي (المعروفة اليوم باسم كونغجو في محافظة تشونغ- تشونغ الجنوبية).
في 8 يوليو 2015، في جلستها التاسعة والثلاثين المنعقدة في بون بألمانيا، أدرجت لجنة التراث العالمي التابعة لمنظمة اليونسكو اسم "بيكجي التاريخية" على قائمة التراث العالمي، وذلك اعترافا منها بإسهام الدولة الكورية القديمة في تطور الحضارة الشرق آسيوية. وتضم مقتنيات التراث العالمي ثمانية مواقع أثرية في ثلاث مدن هي: قلعة كونغسان ومجموعة الضريح الملكي لـ"سونغسان – ري" في منطقة كونغجو، وآثار المكاتب الحكومية في "كوانبوك – ري"، وقلعة جبل بوسو، والأضرحة الملكية لـ"نونغسان – ري"، وأسوار المدينة القديمة "ناسونغ" في مدينة بويو، وموقع القصر في "وانغكونغ – ري" وموقع معبد يحمل اسم ميروكسا في مدينة إيكسان. وخلال تقلّب مواسم الشمس، والرياح والمطر، والجليد، شهدت هذه الجدران، والمعابد القديمة حياة الكوريين لأكثر من 1300 عام.
التاريخ يتخذ شكله
منذ فترة ليست ببعيدة، كانت الآثار التاريخية لمملكة بيكجي مدفونة تحت الأرض. وفي صيف 1971، تم التعرف على واحد من الأضرحة القديمة في "سونغسان – ري" على أنه ضريح الملك "موريونغ"، الحاكم الخامس والعشرين لمملكة بيكجي، وفي ديسمبر عام 1993، تم التأكد من أن أضرحة "نونغسان – ري" كانت تخص العائلة الملكية في مملكة بيكجي، وذلك عندما اكتشفت مِبْخرة البرونز الرائعة وغيرها من الآثار في موقع قريب من معبد ملكي. لقد بدأت عمليات الحفر في عام 1975 في أسوار المدينة القديمة في مدينة بويو. ونظرا لكونها قلعة ترابية، لم يكن من السهل الكشف عنها، ولكن التنقيب المستمر في المنطقة المجاورة ما زال حتى هذا اليوم يطلعنا على الآثار المتنوعة الكبيرة منها والصغيرة. وقد تم تحديد موقع باغودا شرقية في معبد "ميروكسا" بشكل واضح سنة 1974، ولكن لم يتم تقدير حجم القصر المفصول عن المنطقة وأهميته في "وانغكونغ - ري" إلا سنة 1989.
أكدت ظروف مشابهة في اكتشاف قلعة ترابية ضخمة في "ويريسونغ"، وهي أول عاصمة لمملكة بيكجي على جانب نهر "هان" في القسم الجنوبي الشرقي من سيول، أنه على الرغم من أنها لم تدرج في قائمة التراث العالمي، فإن هذه القلعة هي ما تبقّى من القرون الخمسة الأولى للدولة القديمة، عندما أرست المملكة قواعدها مع تطور الزراعة وإنتاج الحديد للاستخدامات المختلفة.
ترتفع أسوار قلعة جبل كونغ وتهبط تبعالطبيعة ارتفاعات الأرض. وقد علت هذهالأسوار اليوم مُتَنَزَّهات تقدم مشهدا بديعامن مدينة كونغجو للزوار الذين يتمشونعلى الأسوار وتحتها، مستمتعين بالهواءالعليل الذي يمر فوق النهر.
ويعتقد بأن القلعة الترابية "بونغناب" قامت في القسم الشمالي من العاصمة القديمة، والتي اكتشفت سنة 1925 بسبب الفيضانات، ولكن لم يُعرْ العلماء والمعنيون بهذه الدراسات الاهتمام الكافي لهذه القلعة قبل أن يتم الكشف عن مشغولات يدوية فنية من مملكة بيكجي أثناء إقامة مباني شقق سكنية سنة 1997. ويعتقد بأن قلعة "مونغتشون" الترابية، وهي تحصين مشابه للقلاع الأخرى، شكلت القسم الجنوبي من قلب العاصمة، والتي اكتشفت في ثمانينيات القرن الماضي.
وبظهورها إلى السطح ثانية بعد كل هذا الوقت الطويل، فإن هذه الآثار والمواقع الأثرية شاهد على التكنولوجيا المتميزة لمملكة بيكجي، والتي كان جمالها الفريد مؤسسا على التقاليد الفلسفية للبوذية، والكونفوشيوسية والطاوية، وتبادلاتها الثقافية والتجارية مع الصين واليابان وأجزاء أخرى من شرق آسيا خلال ما يقرب من 700 سنة من وجودها. والآن، تركت لعلماء الآثار دراسة قيمة هذه القطع الرائعة وبيان أهميتها التاريخية. ويعود الفضل في اكتشاف هذه الآثار إلى عامل الصدفة إلى حد كبير، بعد أن دُفنت في الأرض وغطتها طبقات كثيفة من التراب لقرون كثيرة. وهنا سوف أحاول استكشاف تأثير مملكة بيكجي على نفسية الشعب الكوري.
إنه مسعى طموح، ولكن لنعترف أولا أن عُدّتي الوحيدة في الموضوع هو اهتمامي كهاو. إذ انبثقت فكرة اهتمامي بهذا الموضوع من حقيقة أنه عند تعريض الأشياء لضوء الشمس، فإن إعادة إيجاد الماضي يرتبط دائما بعناصر غامضة وسرية و"معتمة" إلى حد ما. هذه العناصر التي تجسّد الماضي بطرقها الخاصة لا تشيخ، ولا تتغير، ولا تنسى. إنها سَادنة الماضي وحارسته.
من مداواة جراح الحرب إلى باحث في التاريخ
بدأ أول مهرجان لبيكجي في مدينة بويو بتاريخ 18 أبريل نيسان 1955، وذلك بعد يومين من موعد الافتتاح المقرر، وقد تم تأجيل حفل الافتتاح عندما تحول المطر الربيعي على نحو غير متوقع إلى عاصفة. كانت بويو عاصمة لبيكجي حيث تعاقب على العرش فيها ستة ملوك حكموا 123 سنة، بما في ذلك العاهل الأخير الملك أويجا. بدأ المهرجان بطقوس تذكارية لملوك بيكجي السابقين، وقد استمر لمدة خمسة أيام، وانتهى بطقس لأرواح ثلاثة آلاف سيدة من الحاشية الملكية، اللواتي تقول الأسطورة إنهنّ ألقين بأنفسهن من مرتفع عال إلى النهر، حزنا على هزيمة بلدهن، التي أدت إلى سقوط الملك وجيش البلاد في أيدي القوى المتحالفة من مملكة شيلا وتانغ الصينية.
ثمّة أناس لم يعودوا إلى بيوتهم وأوطانهم، على الرغم من أنّ الليل قد حل. أولئك المفقودون الذين تركوا حياتهم القصيرة وراءهم، دون وجود أي مكان يذهبون إليه، لأن أحدا لم يذكر أسماءهم. أولئك هم الذين يعانق ضوء القمر آثارهم ويداعب حياتهم المدمرة، التي محاها الزمن وشوهتها السنين، وبعثرتها يد الأيام خلال الجبال والأنهار لما كان يوما من الأيام، وطنهم- بيكجي.
الباغودا الحجرية ذات الطوابق الخمسةفي معبد جونغنيم في مدينة بويو (الكنزالوطني رقم 9) بُنيت في أواسط القرنالسابع وترتفع إلى 8.8 متر، وهيباغودا حجرية من فترة الممالك الثلاثالمتبقية في منطقة بيكجي القديمة.طور شعب بيكجي طريقة جديدة في بناءالباغودات الحجرية على شكل معابدخشبية متعددة الطبقات، وأصبحت هذهالباغودات الصورة النمطية الأصليةللمعابد الكورية البوذية الفريدة التيازدهرت خلال فترة حكم شيلا الموحدة.
لقد جذب المهرجان 20 ألف زائر من جميع أنحاء البلاد، ملأوا الفنادق الصغيرة المحلية والمطاعم التي ازدحمت بالأعداد الهائلة من الرواد. وإذا أخذنا في الاعتبار الظروف الاجتماعية ووسائل النقل في ذلك الوقت، فإن هذا الحشد كان حقـــــــامدهشا مبهرا. لقد كان مناط التركيز في المهرجان على تكريس ألواح الروح التي تمثل الأشخاص الثلاثة المخلصين لمملكة بيكجي وهم: "سونغ تشونغ" و"هونغ سو" و"كيبيك" - وهي شخصيات أسطورية حاولت إنقاذ المملكة من الموت ولكنها فشلت. لقد أمّ المهرجان أعداد كبيرة من الناس، بينهم المئات من الطلاب والجنود المشاركين في الموكب الطقوسي.
على أي حال، فإن نجاح المهرجان وشعبية نهر "بينغما" وكذلك "ناكهوا آم" (صخرة الأزهار الساقطة)، التي قفزت منها نساء البلاط الملكي وأسلمنّ أنفسهنّ للموت، هذا النجاح وكون المنطقة منطقة جذب سياحي لا يفسر بشكل كاف سبب تكريس السكان المحليين أنفسهم للمشروع وقيامهم بشكل تطوعي بجمع الأموال له، إضافة إلى إحضار بعض الآثار المدفونة تحت الأرض التي تعود إلى مملكة بيكجي لترى النور ثانية، في وقت لم يكن فيه الاعتزاز الشعبي عاليا بالتاريخ والثقافة. ربما يكون التفسير المعقول الوحيد أن المهرجان كان فرصة لدعم التضامن والتصالح.
لقد أسفرت الحرب الكورية (1950—1953) عن أكثر من 3 ملايين قتيل. يشتمل هذا الرقم على أولئك الذين قضوا في المجازر وأعمال الانتقام السياسي في كل من كوريا الشمالية والجنوبية على حد سواء. وبعد وقف إطلاق النار سنة 1953، تُركت للمجتمعات المحلية مهمة تهدئة الخواطر وتضميد الجراح التي خلفها الانقسام الوطني والصراع الداخلي. فقد تكاتفت جهود الشخصيات المؤثرة في بويو ووضعوا أيديهم بأيدي بعض وتوصلوا إلى فكرة سرد القصص عن واقع هذه المأساة. واقترحوا إحياء أسطورة الأشخاص الثلاثة المخلصين في مملكة بيكجي، وتجسيد أعمالهم البطولية حيث خاطروا وغامروا بكل شيء وفي النهاية قدموا أرواحهم لإنقاذ البلاد من القهر والاحتلال، إضافة إلى الثلاثة آلاف سيدة من الحاشية والبلاط الملكي اللواتي ضحين بأرواحهن بإلقاء أنفسهن في النهر. وهكذا فإن الاحتفالات والطقوس التي أقيمت لتكريم أرواح هؤلاء الأبطال من مملكة بيكجي كانت تنتصب معبّرة عن تكريم ومواساة الأرواح في مجتمع بويو الذين تمزقت عائلاتهم بسبب الحرب، وفي سنة 1965 وبعد عشر سنوات من ذلك التاريخ، تم تحويل هذا الحدث إلى مهرجان ثقافي إقليمي على نطاق واسع، بدعم سخي من الحكومة.
رواية "أوه تي – سوك" التي تحمل اسم "ليلة مضاءة بالقمر على نهر بينغما "سنة 1993، والتي تتبنى إطار عمل "بيولسينجي"، وهو طقس شاماني وصل من منطقة بويو، أثبت أنه عمل مثير للجدل وذلك بسبب الربط بين الحرب الكورية وسقوط مملكة بيكجي. فالكاتب يستوحي قصته من حكاية شعبية، تقوم على طقس مجتمعي نشأ لتقديم الصلوات لأرواح حراس القرية. تقول الحكاية إنه في الأزمنة الغابرة انتشر وباء معدٍ في أنحاء قرية "أونسان". وفي إحدى الليالي، ظهر قائد عسكري يمتطي صهوة جواد أبيض في حلم رجل كبير السن، يخبره بأن الأجسام الميتة لجنود بيكجي مبعثرة فوق المكان دون أن يهتم بها أحد. فلو جمع القرويون هذه الأجساد الميتة ودفنوها، فإنه يعطيهم وعدا بالتخلص من الوباء. وبالفعل نفذ القرويون رؤية الرجل العجوز، واسترجعوا الأجساد الميتة وأقاموا طقسا لأرواح الموتى. اختفى الوباء وعاد السلام إلى القرية.
تمر العبَّارة على نهربينغما إلى جانب صخرةضخمة ترتفع 40 مترافي "ناكهوا-آم" (صخرةالأزهار الساقطة). تقولالأسطورة إن 3000 منسيدات الحاشية والبلاطالملكي ألقين بأنفسهن منأعلى الصخرة إلى النهرفي الأسفل عند سقوطمملكة بيكجي سنة 660للميلاد. وقد بُني معبدصغير اسمه كورانسا فيمنتصف منحدر الجرففي القرن الحادي عشر.
عندما تم عرض مسرحية "ليلة مضاءة بالقمر على نهر بينغما" مرة ثانية في صيف 2014، فإن المخرج والكاتب عدلا بشكل كبير النص الأصلي. وقد أيد النقاد النسخة الجديدة من الرواية قائلين، "بالتركيز على الصلح والتسوية بين جنود بيكجي، والملك "أويجا" و"سوندان" (ابنة الشامان العجوز الذي يرأس طقوس القرية، والذي هو استنساخ لجاسوس شيلا الذي طعن الملك "أويجا") أصبح السرد أوضح وأكثر حبكة ودقة بالمقارنة مع النسخة الأصلية." وعلى أي حال، في عملية إعادة تنقيح الرواية، فإن الربط المجازي بين الحرب الكورية وسقوط بيكجي قد اختفى. كما تم أيضا حذف التعليق المحير "ما إذا كانوا جنودا من بيكجي أو ضحايا مجازر الشيوعيين"، من المشهد الذي يتحدث عن اكتشاف رُفات 17 جثمانا في مدخل القرية، أسفل سور أقيم حول العاصمة القديمة في بيكجي. وقد تم ردم الفجوات وذلك بإزالة الارتباط التاريخي الخفي من خلال كلمات المؤلف المتميزة وروح الفكاهة لديه. وإن المرء ليتساءل عن السبب الذي حدا بكاتب مسرحي مخضرم ، وكان وقتها في السبعينيات من عمره أن يقوم بمثل هذا الاختيار.

مجمع "نونغسان – ري"من الأضرحة الملكيةالقديمة يضم سبعةأضرحة لملوك بيكجيمن الفترة التي كانتفيها مدينة سابي(بويو)عاصمة مملكة بيكجي.تقع مجموعة من الأكوامالترابية فوق القبور فيمنتصف المُنْحدَر علىالناحية الجنوبية للجبل فينونغسان - ري، بارتفاع121 مترا فوق سطحالبحر.
ترك الروح خلفه
كان "هيون جين – كون" (1900-1943) كاتبا بارعا، وقدم في بواكير حياته في الأدب الكوري الحديث نموذجا للكتابة الواقعية اعتمادا على معايشته للقضايا الاجتماعية والثقافية، حيث كشف عن وعيه الوطني الواضح. وأثناء عمله كصحفي خلال فترة الحكم الاستعماري الياباني، أودع السجن بسبب مشاركته في تلطيخ العلم الياباني خلال احتفال توزيع الجوائز عندما فاز عضو الفريق الياباني لسباق الماراثون "سون كي – جونغ" بالميدالية الذهبية في الألعاب الأولمبية في برلين سنة 1936. وقد قلبت هذه الحادثة حياة هذا المؤلف رأسا على عقب، إذ اضطر إلى أن يترك عمله في الصحيفة، وبعدها يبيع بيته ويعمل في كل أنواع الأعمال ليبقى على قيد الحياة، وأخيرا انتهت حياته القصيرة بعد إصابته بالسل الرئوي.
ليس من قبيل المصادفة في رواية "هيون" سنة 1939 مويونغتاب (باغودا1 بلا ظلال)، أن يكون الأبطال هم من الـ"أسادال" وتعني البنّاء، من بيكجي، (البَنَّاء الذي بنى مويونغتاب" في كونغجو، المعروف بشكل شائع باسم "سوكغاتاب" أو باغودا "ساكياموني" ، وزوجته "أسانيو"). وقد نشر "هيون" روايتين أخريين استوحاهما من تاريخ مملكة بيكجي وهما: "الجنرال هوكتشيسانغجي"، سنة 1940، و"الأميرة سونهوا" سنة 1941. وقبل أن يتم نشر رواية الجنرال على شكل سلسلة في جريدة دونغ آه اليومية، قال المؤلف: "الماضي أكثر واقعية من الحاضر لأنه يملك النزاهة والأمانة التي لا توجد في الحاضر، ولا يمكن أن يملكها. إن لها قوة أكبر في إيصال الواقعية التي تجعل القلوب تخفق والدم يجري بشكل أسرع من أي شيء يمكن جمعه من حقائق ووقائع الحاضر." وإحدى الشخصيات الرئيسة ترمز للبطل الذي رفض أن ينحني للغزاة وقاد بنجاح إضرابا انتقاميا من خلال بيكجي، ولكن الرواية أوقفت تحت ضغط الحاكم العام الياباني. أما رواية الأميرة "سونهوا"، التي تقوم على قصة صبي يصبح الملك "مو" في مملكة بيكجي، فقد تم نشرها على شكل سلسلة في مجلة شهرية، ولكنها أيضا أوقفت قبل أن تكتمل.
في رواية "باغودا بلا ظلال" قد يكون المؤلف "هيون" اتخذ البنّاء المشهور في بيكجي الذي انتقل إلى مملكة شيلا المنافسة بطلا لروايته، لأن العديد من السجلات المتوفرة حاليا تتحدث عن الحرفيين وصناع الخشب والحجر في مملكة بيكجي الذين بنوا المعابد البوذية والباغودات في مملكة شيلا. ولكن "هيون" كان أول كاتب يعطي اسما واحدا وهو "أسادال". قد يكون شعر بالسرور في نفسه إذ جاء بهذا الاسم، بالنظر إلى قيمته الرمزية لدى الشعب الكوري. وبحسب كتاب "تاريخ الممالك الثلاث" كان الاسم الذي أطلقه الأب الأسطوري المؤسس لكوريا، على أول عاصمة له هو "دانغون" ويعني "أرض ضوء الشمس الصباحية". ولإعطاء فكرة عن أهميته، فإن رواية "باغودا بلا ظلال" هي قصة صراع بين "أسادال" البنّاء من الدولة التي انهارت وهي بيكجي؛ و"جومان"، ابنة عائلة أرستقراطية من مملكة شيلا والتي تقع في حب هذا البنَّاء، وزوجة البنّاء "أسانيو"، التي تيأس من عودة زوجها إلى كونغجو للقائها.
إن أعمال الشاعر "شين دونغ – يوب" (1930 – 1969) المولود في بويو خلال فترة الاستعمار الياباني، أصيلة في الإحساس بالمكان الفريد بالنسبة للمدينة. وإن أبياتا مثل: "الجدة الطاعنة في السن ذات الأنف السيال/بيع العصائب/تحت أشعة الشمس في نعوش بيت الجنازة"، أو النوع الذي في غير وقته/من شجر المشمش في القرية"، ليس مجرد ذكريات غنائية من مسقط رأسه، بل يقفز "شين" من بيكجي القديمة، مستخدما حسه التاريخي وخياله، إلى ثورة فلاحي "دونغهاك" (1894 - 1895) ومسيرة حركة الاستقلال الأولى (1919)، وأخيرا الأراضي في الحرب الكورية (1950 - 1951)، وثورة 19 أبريل 1960 في كوريا الحديثة. وكثيرا ما كان كل من "أسادال" و"أسانيو" يظهران في قصائده كأبطال أو كشخصيات تروي وتحكي القصص، كما يحافظ على الأدوار الخيالية للشخصيات التي أوجدها "هيون جين – كون"، ثم يحولها إلى جيران يعانون في خضم الحرب والفقر كمقاطع تجسيدية للأمة المقسمة.
تبلغ فكرة وطريقة "شين" الإنسانية في تعاملها مع التاريخ ذروتها في القصيدة الملحمية "نهر كوم"، فهو يتعاطف مع الأشخاص العاديين البسطاء، الذين لا ذنب لهم ولا لوم عليهم، وتمت مطاردتهم منذ عشرات آلاف السنين"، فيتحدث عنهم بكل مشاعر الرحمة والاحترام والغضب، ويتخذ من البنية التاريخية للأحداث الماضية طريقة لفهم التاريخ. وإذا كان نجاحه يكمن في استحضار التاريخ للحاضر، فإن فشله ينبع من تصوره للتاريخ. على أي حال، يمكن استخدام الأبيات التالية من قصيدة "نهر كوم" لدحض ما قلته للتّو:
بيكجي،
منذ زمن طويل،
في مكان ما تتجمع الأشياء،
وتتعفن
وتسقط لكي تبلى،
تاركة السماد وراءها.
نهر كوم،
منذ زمن طويل،
في مكان ما تتجمع الأشياء،
وتتعفن
وتسقط لكي تبلى،
تاركة الروح وراءها.
- من الفصل 23 من قصيدة "نهر كوم" –
الباغودا ذات الطبقات الخمس في "وانغونغ– ري" ب"إيكسان"، محافظة جولاالشمالية، يرجع تاريخ بنائها إلى أوائلمملكة كوريو، يُمَثِّل شكل الباغودا الحجريةفي مملكة بيكجي وكذلك الباغودا الحجريةالمتعددة الطبقات التي نشأت أيضا خلالفترة مملكة شيلا الموحدة. وقد تم تسميتهابالكنز الوطني رقم 289 ، وهي بارتفاع8.8 متر. ومن المفترض أن "وانغّونغ –ري"، التي تعني "قرية قصر الملك" كانمخططا لها أن تكون العاصمة الجديدةلمملكة بيكجي.
هناك نصب تذكاري للشاعر، الذي "عانى من أجل الوطن الآمن الجريح" من خلال فقره وعاطفته، ينتصب في موقع "ناسونغ"، وأسوار مدينة بويو الخارجية القديمة، ممتدا من قلعة جبل "بوسو" حتى ضفاف نهر كوم.
إعادة كتابة قصص المهزومين
إن "الأخبار الوهمية" مشكلة ليست في الحاضر فحسب، بل في الماضي أيضا. فقصص المنتصرين دائما تكتنفها المبالغة والتهويل وتنتشر بعيدا وبشكل واسع، أما قصص المهزومين فتكاد تكون مثقلة بالمراوغة التي تشغلها النساء المسنات. وهذا الحال ينطبق على قصص بيكجي. ففي مقابل براعة وشجاعة المنتصرين، تبدو عدم كفاءة وتدني مستوى الخاسرين واضحة جدا. ومع مرور الوقت، استمر هذا النمط البسيط بشكل عنيد وثابت، حتى مع كون الماضي أكثر تذويبا وتجزؤا وذلك اعتمادا على مفاهيم وعواطف الذين قاموا بتذكر هذه الأحداث وروايتها. فالقصة المأساوية "للصخرة التي يسقط عنها الناس حتى يموتوا تحتها" في خضم الحرب، تتحول إلى "صخرة الأزهار الساقطة"، حيث ثلاثة آلاف سيدة من الحاشية يقفزن إلى النهر وفاء وولاء لبلدهن. ويسمى السُّرادِق المنصوب على قمة جبل بوسو "ساجارو". "وعلى الرغم من أن الاسم جاء في مخطوطة غير صحيحة لـ"سابيرو" (سُرادق "سابي" الذي أطلق اسما على العاصمة خلال الفترة الأخيرة من حكم مملكة بيكجي) بسبب التشابه الظاهري في حروف الاسمين، فإن تغييرها لن يكون أمرا سهلا. ولكن الذي يبدو أن السرد القصصي المبني على حقائق موضوعية ليس ضروريا ولا هاما.
"جونغوبيا" هي القصيدة الوحيدة الباقية من الأغنية الشعرية من فترة بيكجي، إلى عصر جوسون غنتها، طبقا "لتاريخ كوريو" زوجة بائع متجول عندما كانت تنتظر زوجها الذي ذهب للسوق لبيع بعض الأواني. صعدت إلى صخرة وطلبت من القمر أن يشع بنوره في المنطقة بحيث لا يُصيب زوجَها أيُّ أذى في الطريق المظلمة أثناء عودته للبيت. ولتخليد هذه الأغنية فإن الأوركسترا البلدية لمدينة "جونغوب" في محافظة جولا الشمالية، تقيم العديد من الأمسيات الموسيقية الكورية التقليدية كل شهر في الليالي المقمرة . وللتأكيد، فإن الأغاني الشعبية اليوم حول بيكجي كلها تتحدث عن الليالي المُقْمِرة، ومع القمر يأتي دائما ذكر نهر بينغما، وطيور الماء، والسكون، والقوارب الصغيرة أو صوت الجرس البعيد.
في مقدمة روايته الملحمية "الجبال والأنهار، كتب "لي بيونغ – جو" (1921-1992)، الصحفي والروائي، "إذا ذبلت في ضوء الشمس تصبح تاريخا، وإذا غسلت بضوء القمر تصبح أسطورة."
يمكن القول إن بيكجي غُسلت بضوء القمر. وعندما يُسلم الغسق الوقت لليل، تأتي أضواء القلعة حول العاصمة الملكية القديمة ضوءا إثر ضوء، وهنا وهناك، تَفرد أسوار القلعة أكتافها للأعلى تحت السماء الزرقاء-السوداء، كما لو أنها تدعو شخصا ما يقف بعيدا على الجانب الآخر من النهر.
ثمّة أناس لم يعودوا إلى بيوتهم وأوطانهم، على الرغم من أنّ الليل قد حل. أولئك المفقودون الذين تركوا حياتهم القصيرة وراءهم، دون وجود أي مكان يذهبون إليه، لأن أحدا لم يذكر أسماءهم. أولئك هم الذين يعانق ضوء القمر آثارهم ويداعب حياتهم المدمرة، التي محاها الزمن وشوهتها السنين، وبعثرتها يد الأيام خلال الجبال والأنهار لما كان يوما من الأيام، وطنهم- بيكجي.